إنسان جديد وخليقة جديدة

- نظرة ليتورﭼية من خلال طقس صلاة الحميم - ( بحسب الطقس القبطى ) 
صلاة الحميم ” الطِشت ” وخطة الله للإنسان
إن صلاة الحميم المعروفة باسم صلاة “الطِشت” هي من ضمن طقوس ما قبل العماد ومعها أيضًا صلاة أخرى هي تحليل المرأة بعد ولادة الطفل وذلك بعد أربعين يومًا إذا كان ذكرًا وثمانون يومًا إذا كان أنثى.
وأهمية صلاة الحميم في موضوعنا هذا تكمن في أنها تمثل إعلان خطة الله لأجل الإنسان والعالم. يتم هذا الطقس في بيت المولود وذلك في اليوم السابع لولادته، تأتي الكنيسة لتحتفل بالمولود وتشترك مع الوالدين في تسمية الطفل.
هناك محوران تدور حولهما التعاليم اللاهوتية في هذا الطقس هما:
المحور الأول: التجسد، وهو يظهر بوضوح في قراءات هذا الطقس.
المحور الثاني: الخلق، وهذا يظهر بوضوح من الطلبة الأساسية في هذا الطقس. 
وهناك قصد وهدف من الحديث عن الخلق والتجسد في هذه الصلاة، فولادة الطفل فى نظر الكنيسة، هو عمل مساوي للخلق، وأيضا لا معنى لحدث الولادة إلا في إطار التجسد. إن ميلادنا اكتسب معنى حقيقيًا فقط بميلاد المسيح.
ومن خلال المحورين سوف نتعرف على الإعلان الإلهي بخصوص الإنسان والعالم وعلاقتهما بالله.
ومن خلال قراءتنا لطقس الحميم نتعرف على المحورين: التجسد ـ الخلق
التجسد : نظرة سريعة على القراءات
البولس: عب 5:1 –2 “… وأيضا إذا أدخل البكر إلى المسكونة.. “ إشارة واضحة عن تجسد الابن.
الإنجيل: يو14:1ـ9 ” والكلمة صار جسدًا وحل فينا… ” الكلام واضحًا جدًا عن التجسد.
2 ـ الخلق : يتم هذا الطقس في اليوم السابع لولادة الطفل، بينما في الكنائس الخلقيدونية يتم في اليوم الثامن للولادة، والكنيسة لها حكمة في ذلك لأن اليوم السابع هو تذكار الخلق ” وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأن فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا ” (تك3:2)، لذا الطقس هنا يؤكد على أن ولادة الطفل هى عملية خلق مساوية للخلق الأول، والله يبارك هذا الخلق بواسطة الكنيسة.
نص الطلبة 
عن خلق العالم والإنسان
” يا الله العظيم الأبدي، الرب الضابط الكل، الذي من قِبَل كلمتك، ربنا يسوع المسيح ، الكائن منذ البدء وإلى الأبد، خلقت العالم بحكمتك التي لا تستقصي، وكونت الإنسان مثل صورتك ومثالك “
قدرات وإمكانيات الإنسان وهدفه
” وملأته من رحمة صلاحك، وزينته بكل بهاء، وأعطيته روح حكمة وفهمًا عقليًا، وسَلَطْته على كل شئ وتركته ليعمل كل النهار ويباركك “
الصلاة من أجل المولود
” من أجل هذا نسأل ونتضرع إلى صلاحك عن عبدك ” فلان”. باركه بكل البركات السمائية، وبارك أيضا ميلاده وليطل عمره كنعمتك، حتى ينمو ويكثر ثلاثين وستين ومائة. وليفرح به أبواه ويسرا بميلاده، مثل زكريا وأليصابات اللذان وهبت لهما يوحنا النبي”.
الميلاد الجديد للطفل
” وفي الزمان المحدد، فليستحق حميم الميلاد الجديد لغفران خطاياه”، ” أعده هيكلا لروحك القدوس بالنعمة والرأفات ومحبة البشر اللواتي لأبنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الذي من قبله يليق بك المجد والكرامة … ” .
إننا نستطيع أن نستخلص التعليم عن الخلق من هذه الطلبة 
فالله خلق الكون بواسطة الابن ” كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان” (يو2:1)، وقد خلق الكون بحكمة، لذا يؤكد القديس باسيليوس الكبير بأن أعمال الله في الخلق تعلمنا كم هي عناية الله وحكمته [1]، والقديس أثناسيوس يشدد على تناسق الكون وانسجامه بحكمة الله [2].
أيضا الطلبة تؤكد على أن خلق الإنسان بحسب صورة الله ومثاله. تشير ” بحسب صورة الله” إلى الإمكانيات والقدرات التى أودعها الله فى الإنسان، وكأنه يطلب من الإنسان أن يتحرك من مرحلة الإمكانيات والقدرات إلى مرحلة التحقيق وتفعيل هذه الإمكانيات، لكي يكون حقيقة “بحسب صورة الله ومثاله“. لذلك فإن الإنسان مدعو أن يتوجه نحو الأفضل مستخدمًا المواهب والقدرات الإلهية من إبداع وفكر وحرية وسلطان. والطلبة تؤكد على أنه لا خوف على الإنسان من استخدام سلطته على كل شئ، طالما هو يتمتع بالرحمة والصلاح وروح الحكمة والفهم العقلي.
أما السؤال الذي يفرض نفسه عن علاقة الخلق بالتجسد، فنحن نجد الإجابة أيضا في الطلبة. إذ تعرض لنا كيف سيصبح المولود إنسانًا جديدًا، وذلك عندما يقول النص : ” وفي الزمان المحدد، فليستحق حميم الميلاد الجديد لغفران خطاياه. أعده هيكلاً لروحك القدوس بالنعمة والرأفات ومحبة البشر اللواتي لأبنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح”. وهكذا لكي يصير المولود إنسانًا جديدًا، فلابد من حميم الميلاد الجديد (المعمودية)، والتي اكتسبت فاعليتها من تجسد الابن الوحيد، فميلادنا الحقيقي هو في المسيح يسوع، فالتجسد أعطى لنا إمكانية الولادة من فوق لنصير هيكلاً للروح القدس.
إن الإنسان مدعوًا، كما قلنا سابقا، بأن يتحرك من حالة السكون” بحسب صورة الله” إلى الحركة والتحقيق”بحسب مثال الله” لكي يصير كاملاً وقديسًا [3].
إن المسيح نفسه في العظة على الجبل يقول ” كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل ” (مت48:5).
والقديس بولس يصلي من أجل المؤمنين قائلا ” يا أولادي الذين أتمخض بهم إلى أن يتصور المسيح فيكم “ [4]، وهكذا فلابد أن يقترب منا المثال الكامل للجنس البشري، الذي هو المسيح ” صورة الله ” (2كو4:4، كو4:1) لقد ظهر هذا المثال في العالم بتجسد اللوغوس، فالمسيح هو النموذج الحقيقي للإنسان الكامل.
وبحسب تعليم القديس بولس ، فإن المسيح هو الهدف النهائي لخلق الإنسان وليس آدم، وذلك لأن ” الكل به وله قد خلق ” (كو16:1). 
فالمسيح ليس فقط هو وسيط الخلق “الكل به” ولكن هو هدف الخلق ” وله قد خلق الكل “، وعلى هذا الأساس نجد تفسير للربط الموجود في صلاة الحميم بين الخلق والتجسد. فالإنسان خُلِقَ ” بحسب صورة الله ومثاله ” وبما أن المسيح هو صورة الله، فهذا يعني أن المثال الأصيل للإنسان هو المسيح، وهدف الإنسان هو الإقتداء والاتحاد بالمسيح، وهذا هو هدف تجسد ابن الله.
الإنسـان الجديد والخـليقة المادية
إن مسئولية المسيحي أمام العالم يمكن أن توجز في عبارتين كانتا معروفتين للجماعة المسيحية الأولى، وهما :
أنظر إلى أخيك ترى إلهك”، نجدها عند القديس كليمندس السكندرى [5]. والعبارة الثانية هى:
ارفع حجرًا سوف تجدني، شُق خشبة سأكون هناك “، نجدها فى إنجيل توما المنحول [6].
إن مسئوليتنا المسيحية أن نبحث عن المسيح ونخدمه في وجه كل إنسان ” بما أنكم فعلتم بأحد أخواني الأصاغر فبي فعلتم ” (مت4:25). 
إن حقيقة حضور المسيح في قريبنا، تمثل أساس لكل نشاط اجتماعي لنا كمسيحيين داخل العالم. ويجب أن نبحث عن المسيح ليس فقط في كل الناس، بل أيضا في كل الأشياء . رغم التقدم العلمي الهائل في هذا العصر، نجد حولنا هواء ومياه ملوثة والحاجة إلى إعادة إحساس الإعجاب والابتهاج في داخلنا أمام خليقة الله ، ويجب أن نتعلم أن ننظر إلى الأشياء المادية التي تحيط بنا لنرى عظمة أعمال الله، والتى من خلالها تزداد شركتنا معه [7]. إن المسيحي كما يؤكد لنا الأب ألكسندر شيميمن هو “الذي أيًا كان، يرى دائمًا المسيح ويفرح لهذا “ [8].
إن الموقف المسيحي أمام الأشياء المادية يمكن أن يُفهم أفضل تحت عاملين أساسيين:
الأول : في علاقتها بالتعليم عن الخلق .
الثاني : داخل نور الخليقة الجديدة و التي قدمها المسيح بالتأنس والعماد والتجلي والقيامة.
العالم سر والإنسان رئيس كهنة وســيط
” ورأى الله كل ما عمله إذ هو حسن جدًا ” (تك3:1)
هذا بداية التعليم عن الخلق: أن العالم المادي خُلِقَ من قِبَل الله وبالتالي هو ” حسن جدًا “. وليس هو شرير كما يدعي الغنوسيون، ولا هو مجرد فكرة مثالية كما نادى الأفلاطونيون مروجين للثنائية الشهيرة بين المادة والروح، ولا وُجد صدفة بسبب سقوط الموجودات الروحية، كما أدعى البعض. لكن على العكس، فإن العالم هو عمل الله الحسن جدًا، إنه جزء غير منفصل عن الخطة الإلهية، وليس مجرد نتيجة لخطية بشرية.
إنه عطية من الله إلينا وليس مجرد عائق بيننا وبين الله ، إذ هو سر ووسيلة شركة معه. إن سفر التكوين يؤكد شئ أكثر من هذا. فداخل برنامج الخلق هناك مكان فريد للإنسان، إذ هو الوحيد بين بقية المخلوقات، صار بحسب صورة الله ومثاله (تك26:1).
وطلبة صلاة الحميم كما رأينا تشدد على هذه الحقيقة، وتوضح لنا كيف أن الإنسان الذي خلق على صورة الإله الحي، يمكنه أن يعمل أمرين، لا تستطيع المخلوقات غير العاقلة أن تفعلهما :
الأمر الأول : ” تركته يعمل كل النهار ” أي أعطاه إمكانية ورسالة لتغيير العالم وتجميله وذلك بإعطائه هدفًا ومفهومًا ومعنى جديدًا.
الأمر الثاني : ” ويباركك ” أي يمجد ويشكر الله من أجل العالم .
إن الإنسان هو ملك ” وسلطته على كل شئ ” وأيضا كاهن ” ويباركك “. إن دعوته ليست هي مجرد أن يعيش داخل العالم، قانعًا بالأشياء التي حوله كما هي، لكن أيضا لكي يستخدم العالم ويطوره ويشكله، ولا يكتفي بهذا، بل يرى العالم كعطية من الله، لذا يقدم مرة أخرى هذه العطية الإلهية إلى العاطى كإفخارستيا .
إن دور الإنسان ـ في علاقته مع البيئة الطبيعية ـ هو إبداعي وإفخارستي .
إن مكانة الإنسان الإبداعية والملكية قدمها بوضوح سفر التكوين في الإصحاحين الأولين : فالإنسان ُخلق ” بحسب صورة الله ومثاله ” (تك26:1) وهذا له علاقة مباشرة مع مفهوم التسلط على ” سمك البحر وطيور السماء والوحوش وكل الأرض ” (تك28:1). 
إذ مارس آدم سلطانه بإعطاء اسم لكل المخلوقات الحية (19:2). هنا نرى مباشرة الإنسان يُشكل بيئته الطبيعية ويعطي مفهومًا واتجاهًا للأشياء التي توجد حوله. فعندما يوجد شئ ليس له اسم، يظل غير محدد وبلا شكل، ولا يخطر على تفكيرنا ولا نستطيع أن نستخدمه. لكن مجرد أن تعطي اسمًا لشيء، مباشرةً، نحدد علاقته معنا، ونحن عندما نعطي اسمًا لشيء، فلكي نميزه عن بقية الأشياء المحيطة بنان ونبدأ بعدها في فهم طبيعته المميزة. إذن أن نعطي اسمًا لشيء يعني أننا أعطيناه مفهوم ومعنى لم يكن لديه قبلاً، أو على الأغلب، كان لدية كإمكانية ” ” (لأهمية الاسم والقوة التي لديه أنظر صراع يعقوب مع الملاك تك24:32ـ29).
وهكذا لأننا مخلوقين بحسب ” صورة الله ومثاله ” فنحن نشترك في العمل مع الله (1كو 9:3)، بالفن والشعر وبالتكنولوجيا والبحث العلمي ونجمل الخليقة المادية ونجعلها قادرة على أن تمجد الله. فالخليقة تمجد الله من خلالنا نحن البشر. وهذا ما تقوله الكنيسة في تسبحة الهوس الثالث: ” باركي الرب أيتها السموات سبحيه وزيديه علواً إلى الآباد… باركي الرب يا جميع المياه التي فوق السماء سبحيه وزيديه علواً إلى الآباد… باركا الرب أيها الشمس والقمر سبحاه وزيداه علواً إلى الآباد… باركي الرب يا سائر نجوم السماء سبحيه وزيديه علواً إلى الآباد…” [9].
هذه التسبحة تعبر عن الذي نقصده بالكهنوت الملوكي للمؤمنين وبالتأكيد لا نعني أن سلطة الإنسان فوق الخليقة المادية هي مطلقة، وبلا حدود لأن نص طلبة الحميم هي دقيقة، فقبل أن يعطي الله الإنسان أن “يتسلط على كل شئ”، تقول الطلبة: “وملأته من رحمة صلاحك، وزينته بكل بهاء، وأعطيته روح حكمة وفهمًا عقليًا”.
إذن قبل التسلط هناك الفهم والحكمة اللذان يضمنان عدم جنوح الإنسان في استغلال العالم المحيط به استغلالاً مُخلاً. الإنسان هو ملك الخليقة، لكن رئاسته هذه هي تخويلية من الله. 
إذ أن الله عندما يخلق، فهو يخلق من العدم، أما الإنسان فإنه عندما يبدع فإنه يستخدم المادة الموجودة قبلاً. يوجد في هذه المادة ـ قبلما يأخذها الإنسان الفنان والمبدع في يديه ـ بنية معينة أو ليتورجية معينة ـ هذا الذي يسمونه آباء الكنيسة ” lÒgoj ” أى العِلة أو الاستخدام المنطقى للمادة الموجودة فى متناول يديه.
والإنسان يجب أن يكد ويتعب لكي يكتشف هذه العِلة، وبعد ذلك يحترمها ويقدرها . والإنسان عليه ألا يكون مبدعًا فقط ولكن أيضًا باحثاً. وإذا كان هناك منتجات كثيرة للتكنولوجيا المعاصرة تسبب أضراراً للعالم المحيط، هذا فلأن الإنسان فقد تقديره الهام للمادة ولم يعد يفهم العِلل (أو الاستخدام الحقيقي لها) الموجودة فيها .
 وهكذا يوجد في الخليقة الطبيعية عِلة فطرية، منطق فطري يحمل علاقة جوهرية مع العقل البشري. ويوجد نوع من التكميل المتبادل بين العِلة أو (الغرض) السلبي الموجود داخل المادة وبين الإيجابية الفعالة للإنسان. والإنسان عندما يعمل بحسب قانون التكميل المتبادل، وليس بالقهر العشوائي يصير بالحقيقة مُبدعًا وخلاقًا بحسب صورة الله خالقه.
السقوط والخليقة الجديدة
إن الإنسان المخلوق على صورة الله قد شُمل بعطية الحرية، إذ كان في استطاعته أن يتحرك نحو الله، وبدلاً من أن يرى العالم كعطية من الله وكوسيلة شركة معه، رغب أن يحتفظ به لنفسه. لم يراه كعطية من الله بل كهدف في حد ذاته، وصار العالم عدو له. 
فالعالم البعيد عن الله صار عالماً ملئ بتشوهات، وُضع في الفساد و في الموت، عاد ”إلى التراب ” (تك19:3). هذه هي حقيقة الإنسان وكل شئ في العالم في حالة انفصالهما عن الله.
وكنتيجة للسقوط صار الإنسان مقيداً حول دائرة ذاته المغلقة.
توقفت شفافية الخليقة المادية وصارت معتمة ومظلمة، لم تعد هذه الخليقة وسيلة شركة مع الله بل صارت عائق. وكما أن صورة الله في الإنسان لم تُدمر تماماً بسبب الخطية، هكذا جمال الخليقة الأول لم يُفقد نهائياً، لكن تأثر تأثراً بالغاً.
فالإنسان الساقط أمكنه أن يؤكد أنه ” صورة المجد الأزلي” ونفس الشيء يقال على العالم، إذ بالرغم من أنه موجودًا، تحت ظروف السقوط، فإنه مكتوب ” السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ” (مز2:18) ولكن بعد السقوط ” تحدث السموات” لا يمكن أن ُيقارن بجمال الخليقة الأول .
وإذا كان الكون قد تأثر بنتائج السقوط، فالخلاص الذي قدمه المسيح ـ بمجيئه على الأرض ـ هو أيضاً مقدم للعالم كله. فالفداء قُدم ليس فقط للبشرية، ولكن كل البيئة الطبيعية للإنسان. فالإنسان الساقط، لم يتخلص من العالم مثلما نادى الغنوسيون، لكن كل العالم المادي استُعيد وجُدّد معه. الخلاص في المسيح يعني أن الأشياء المادية حصلت مرة ثانية على قوتها لكي تعمل كأسرار شركة مع الله، وأن الإنسان حصل على وضعه الأول (القديم) كوسيط ورئيس كهنة للخليقة، مالئًا العالم بالمجد الإلهي، مقدماً كل الأشياء الطبيعية في بُعدها الروحي .
إن الأهمية العُظمى للخليقة المادية تبدو ببساطة في كل اللحظات الفريدة لحياة المسيح على الأرض :
في التأنس: المسيح أخذ ليس فقط نفسًا إنسانية لكن جسدًا ماديًا، وهذا الجسد، كما يقول الآباء صار مصدراً للقداسة. وأيضاً الأب يوحنا الدمشقي يقول: [ أنا لا أعبد المادة ] مجيباً على الذين يعبدون الأيقونات [ لكن أعبد خالق المادة، الذي لأجلي صار مادة وقَبِلَ أن ينزل داخل المادة محققًا بهذه الطريقة خلاصي. لن أتوقف في تكريم المادة لأن خلاصي أتى بواسطة المادة[10].
في العماد : المسيح اغتسل في نهر الأردن، أى في عنصر المياه المادي، وهذا الحدث فُسر في التقليد الأرثوذكسي ليس فقط كنموذج لسر العماد، لكن كتطهير وتجديد للخليقة المادية. إن الموعوظ في سر العماد يُعمد وهو خاطئ، وروحياً نجس وذلك داخل الماء النقي، وبهذا التغطيس في الماء، يخرج طاهراً وبلا خطية. نزل في الماء النجس ـ نجس لأنه يتأثر (مع كل الأشياء المادية) من سقوط الإنسان ـ وبنزوله هذا طهّر عنصر الماء وأعطاه قوة لكي يخدم كوسيلة نعمة. وبهذا المفهوم، فإن تقديس المياه بعماد المسيح يعني التغيير الكامل لكل العالم، وموضوع هذا التغيير والتجلي يظهر في كل نصوص الليتورجيا الخاصة بالثيوفانيا ” اليوم تقدست طبيعة المياه … “، ” المسيح ظهر في الأردن وقدس المياه “، وهذا البُعد نقصد بُعد تقديس العالم المادي، ظاهر بوضوح في ذوكصولوجية عيد الغطاس :
[ حينئذ امتلأ فمنا فرحاً ولساننا تهليلاً. لأن ربنا يسوع المسيح قد اعتمد من يوحنا. بالحقيقة، السماء والأرض مملوءتان من كرامتك. أيها الرب ذو اليد العزيزة والذراع المنقذة. لأن الرب أتى واعتمد من أجل خطايانا نحن أيضًا. وأنقذنا وخلصنا برأفة عظيمة... البحر رأى فهرب. والأردن رجع إلى خلف. مالك أيها البحر لأنك هربت. اثبت لكي تتبارك... افرحي أيتها الجبال والآكام والغياض والأرز من قدام وجه الملك الذي خلق الأنفاس[11].
وهناك ذكصولوجية أخرى لعيد الغطاس تشدد على عنصر التجديد وذلك بوضوح جدًا:
[الإله الوحيد جاء إلى الأردن. والصورة التي فسدت وماتت بالخطية جددها مرة أخرى بعماد الماء. ورّض رأس التنين على مياه الأردن[12].
وهكذا أتى المسيح لكي يؤسس هذا الانسجام الذي فُقد بعد سقوط آدم، وترك الإنسان ليحفظ هذا الانسجام ويوجده.
فى تجلي المسيح على جبل طابور: إشارة إلى الإمكانيات الروحية للأشياء المادية. لقد ظهر مجد الله، في التجلي، كمجد طبيعي: إن النور الإلهي غير المخلوق ليس مجرد حقيقة رمزية أو غير منظورة، والتي تدرك بالذهن، لكن شيء يشع من خلال الأشياء المادية، والتي هي منظورة بعيون الإنسان الجسدية. لقد لمعا وجه المسيح وجسده، وليس فقط وجه المسيح ولكن ملابسه، وكانت مصنوعة بيد بشرية.
في كل فترة حياة الرب على الأرض : نرى أيضًا نفس التشديد على الأشياء المادية، فعندما فتّح أعين المولود أعمى، بصق على الأرض وصنع طينًا (يو6:9). وأخذ المسيح، في سر الإفخارستيا، طعامًا ماديًا وشرابًا (الخبز والخمر) ـ إنها عناصر طبيعية ـ وقُدِّست بالروح القدس. أيضا تألم المسيح بجسده المادي، وبجسده هذا قام من بين الأموات وجلس على يمين الآب. وهذا يعني أن جسده صار ” جسد روحاني” (1كو44:15) بدون أن يتوقف أن يكون ماديًا في طبيعته. وأيضا سيأتي بجسده هذا الممجد، لكي يدين الأحياء والأموات. ونحن أيضا سوف نقوم بأجسادنا، إذ سنظهر أمامه محاطين بالجسد المادي.
وهكذا فإن الخلاص الذي يقدمه المسيح هو خلاصًا شاملاً للجسد مع النفس، للمادي وغير المادي. لا يوجد فداء حقيقي يلغي أو يحتقر الجسد. فنحن لا نعتقد بخلود النفس كما زعم اليونانيون، ولكن ننتظر قيامة الأجساد. وهناك مثال واحد في التقليد الكنسي عن العذراء مريم التي صعدت إلى السماء جسديًا وأصبحت القيامة الجسدية بالنسبة لها ليس رجاءً مستقبليًا لكن هو حدث قد تم.
وحالتها هذه ليست فريدة لأن التقليد الأرثوذكسي يفسر حالتي العهد القديم: أخنوخ (تك24:5) وإيليا (2مل11:2) بأنها انتقال جسدي بنفس نوعية انتقال العذراء. أيضاً في الحياة الحاضرة كثيرون من القديسين أخذوا خبرة التجلي، وهم على الأرض بظهور النور الإلهي اللامع في أجسادهم مثل: الأنبا بولا والأنبا كاراس السائح وغيرهم من آباء أقباط في الأديرة المصرية ” .
وبالتأكيد فإن الإنسان ليس فقط مدعوًا بأن يأخذ هذه الخبرة، لكن سر التجلي لابد أن يمتد إلى كل العالم المادي بحسب تعبير القديس بولس، بأن الخليقة، بسبب سقوط الإنسان، تُوجد في “عبودية الفساد ” وبواسطة الإنسان ستتحرر ” إلى حرية مجد أولاد الله” (رو21:8). 
أعاد المسيح إلى الإنسان ملء دعوته كوسيط ” لأن الخليقة كلها تئن وتتمخض معاً..” (رو19:8). أي أن الخليقة تتطلع إلى أن يحقق الإنسان رسالته كملك ورئيس كهنة عليها. وكما في الخلق الأول، هكذا في الخليقة الجديدة، فالإنسان مدعو أن يكشف مجد الله في العالم بعمله الإبداعى مع الخالق لكي يقدم ” الأرض الجديدة ” والتي تكلم عنها يوحنا الإنجيلي نبوياً في جزيرة بطمس ( رؤ21:1) .
الإنسان الجديد هو الإنسان الخلاق ” المبدع “
يمكننا أن نعطي ثلاثة أمثلة للطريقة التي بها يحقق الإنسان دوره الكهنوتي والإبداعي وذلك كاستمرار للعمل الذي بدأه آدم بإعطاء أسماء الحيوانات داخل الفردوس :
1 ـ الإفخارستيا : ” نقرب لك قرابينك من الذى لك . على كل حال ومن أجل كل حال وفى كل حال “[13].
إذن الكل يأتي من الله، ولا نستطيع أن نقدم إليه أي شئ ماعدا هذا الذي أخذناه سابقاً كعطية من يديه. وفي الإفخارستيا نقدم عطايا الله لنا، ولكن لا نقدمها له بنفس الشكل الذي أخذناه منه من البداية. لا نقدم قمحًا ولكن خبزًا. لا نقدم عنبًا ولكن نبيذًا. أي نقدم ليس مجرد الثمار الأولى للأرض بالشكل الذي أُعطى إلينا من الله، لكن الثمار الأولى للأرض بعدما تشكلت بأيدي الإنسان. نقدم إلى الله عطيته، ونقدم له أيضاً شيئًا من مساهماتنا: أي نقدم أمامه ثمار الأرض تحمل في داخلها عمل الإنسان الملوكي على الخليقة، والله نفسه يُغير هذه التقدمة إلى جسده ودمه .
2 ـ الأيقونات
إن رسم الأيقونات هو مثال جدير بالملاحظة للطريقة التي بها يعمل الإنسان كمبدع بحسب صورة الله الخالق. الرسام يأخذ ألوان وقطعة من الخشب، بالطبع إن مجد الله هو حاضر فيهما، كما هو حاضر في كل المخلوقات. وبخطوطه وألوانه يجعل المجد الإلهي ظاهر بشكل جديد وبطريقة إعجازية وإعلانية لم تكن من قبل. إن رسم الأيقونة هو عمل إبداعي شخصي وليس عشوائي، والرسام لو عمل بروح الأرثوذكسي الأصيل، لا يُبدع فقط لكن يؤرخ [14]  Istore…، والهدف الذي يُعبّر عنه في أيقونته ليس هو إبداعًا ذاتيًا، لكن شئ يكتشفه ـ أو بالأحرى شئ يُكشف له ـ هذه الحقيقة تفسر التقاليد المختلفة للأيقونات المرسومة باليد.
يقوم الرسام بعمله الإبداعي الفني بتغيير وتجلي الخليقة المادية. فمثلاً، كما يقول الأسقف كاليستوس وير، تابلوه لفان جوخ يظهر فيه حقل بثمار الذرة والطيور، والذي قام برسمه قبل موته بقليل، هو مثالاً حقيقيًا للتجلي الإلهي، حيث نشاهد الطبيعة وقد سرى فيها الروح وتأتي إلى ” حرية مجد أولاد الله “.
3.البحث العلمي
إن عالِم الفيزياء، مثلاً، الذي يراقب أو يكتشف بنية المادة والمعادلات لم تكن مكتشفة من قبل، وكذلك الفني الذي يطبق هذه الاكتشافات لأهداف عملية تُفيد البشرية هما يعملان عملاً يعكس إمكانيات الخلق على صورة الله ومثاله. فاختراع الحاسبات الإلكترونية لفائدة البشر هو تأكيد لحقيقة خلق الإنسان على صورة الله. فالحاسب الإلكتروني يحرر الإنسان من مشقة فكرية، وإن كان هناك سلبيات للاستخدام الدائم، لكن كل كشف جديد يحمل خطراً وذلك إذا استُخدم بطريقة خاطئة. أيضاً على سبيل المثال نجاح العالِم في مجال الذرة له إمكانيات غير محدودة لخير البشرية ولكن في نفس الوقت، استُخدم في تدمير العالم الطبيعي والإبادة الجماعية للبشر.
إن العالم مخلوق بطريقة تجعله في حاجة إلى من يضفي معنى على المخلوقات. فالعالم من نفسه لا يستطيع أن يكون كاملاً ولكنه في حالة تجعله يحتاج للتكميل. الأشياء التي لا يوجد سبب منطقي لوجودها ليس لها معنى. ولكن عندما يكتشف المرء أن لها هدف بعِلةٍ منطقية، عندئذ يصير لها معنى. لذلك إن تشجيع ” البيئة العلمية ” لتحقيق إنجازات علمية وتكنولوجية في كافة المجالات من استكشاف أسرار الكون إلى اختراق الأمراض المستعصية التي تُعجِل بقتل الملايين، هو في الأساس تشجيع لأن يمارس الإنسان الإمكانيات والقدرات التي أودعها الله فيه عند الخلق وذلك طالما أن هذه الإنجازات هي لخير البشرية. فمثلاً قد أحدث التقدم العلمي في أبحاث وتكنولوجيا الطب والعلاج اختراقاً هائلاً، خلال السنوات الأخيرة، في مواجهة أمراض القلب، ولم يعد الفزع والهلع يصيب أحداً إذا اكتشف أنه مريضًا بالقلب أو أن بعض شرايينه قد سُدت، فما أسهل مواجهة كل ذلك الآن وعلاجه. إنها تكنولوجيا الحياة التي تعطي أمل الشفاء للملايين من البشر، لا يمكن إلا أن تكون امتدادًا لمسئولية الإنسان تجاه أخيه الإنسان والعالم الطبيعي. واستمرارية الإنسان بأبحاثه لإيجاد حلول لمشاكل مستعصية، سواء كانت في الطب أو في أي مجال آخر يثبت بالبرهان القاطع أن الإنسان هو بالنسبة للخليقة المادية كاهن وملك .
خــاتمة 
إن الخليقة الجديدة تتطلب إنساناً جديداً ” إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة ” (2كو17:5)، جديداً في علاقته مع الآخرين من جنسه، وأيضاً في علاقته مع العالم الطبيعي (المادي) المحيط به، وفوق كل شئ، علاقته الحميمة مع الله في المسيح يسوع .
إذن نحن أمام أخلاق إنسان جديد، أخلاق التغيير المستمر للأفضل، أخلاق ملكوت الله، الذي بدأ بحضور المسيح في العالم ويستمر من خلال كنيسته، من خلال المؤمنين به. وإذا كان القرن الحادي والعشرون يحتاج إلى إنسان من نوع جديد، فإن أخلاق ملكوت الله تستطيع أن تخلق هذا الإنسان القادر على مواجهة التغييرات والتعامل مع المجهول، إنسان متعدد المهارات والخبرات قادر على التعليم الدائم، يقبل إعادة التدريب والتأهيل عدة مرات في حياته حتى يمكنه التنقل من عمل إلى آخر. فإن إنسان ملكوت الله لديه إحساس بالزمن وبالتحولات التي تجري بسرعة هائلة من حوله، ليمكنه مسايرتها حتى لا تعدو بالنسبة له صدمة.
إن أخلاق الخليقة الجديدة أيضاً تمس تغيير المجتمع، وذلك بالتربية لإعداد الإنسان الجديد، التربية التي تصقل العقل وتنمي القدرات على النقد والإبداع والابتكار، وعلى الفهم والتحليل، بالتربية التي لا تجد صراعًا بين الإيمان والعلم، بل ترى أنه من الإيمان أن نشجع العلم الذي يرفع الإنسان ويرقى بالمجتمع، بالتربية التي تقوم على التعاون مع الآخرين وليس الذوبان فيهم، بالتربية التي تقوم على الاختلاف بدلاً من التسليم بالأفكار والمعلومات السائدة. وهكذا فإن أخلاق الخليقة الجديدة لا تخص الحالة الروحية للإنسان ولكن تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة .


دكتور جورج عوض 
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 
والمقالة نشرت اولا فى 29 - نوفمبر - 2011 
فى موقع المركز  patristiccairo.com


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] EPE5,48.أنظر باسيليوس الكبير
[2] PG 25, 76راجع القديس أثناسيوس
[3] راجع فيلبي 15:2، كو 12:4، 1تس 3:4، يع 4:1.
[4] غلا 19:4. راجع أيضا أفسس 1:5، كو 10:3، 1 بط 14:1… الخ .
[5] Klhmentoj Alex., XIX (94.5), XV(70.5). وأيضًا راجع Trtllianoà, De oratione, XXVI, I.
[6] LÒgion77 in Euaggšlio tou Qwm©, ekd. A.Guillaumont and others, Lieden London 1959, p.42-43.
المرجع عن مقال الأسقف كاليستوس (وير): ” قيمة الخليقة المادية” فى مجلد ” الإنسان والبيئة” مجموعة مؤلفين، بافوس 1994 ص 25، وهو مرجع أساسى لهذا البحث.
[7] أنظر جورج عوض إبراهيم، اللاهوت والبيئة، دورية دراسات آبائية ولاهوتية، السنة الثانية العدد الرابع يوليو 1999، ص42ـ61.
[8] Alexander Schmemann, The World as Sacrament,London 1965, p. 142.
[9] الإبصلمودية السنوية ، لجنة التحرير والنشر بمطرانية بني سويف الطبعة الثالثة 1991 ص47-55 
10 راجع مقال الأسقف كاليستوس (وير)، المرجع السابق ص28.
[11] الأبصلمودية المقدسة، دار النشر مطرانية بني سويف، الطبعة الثالثة 1991، ص559 ـ 562 .
[12] الأبصلمودية، المرجع السابق ص563
[13] صلاة القداس الباسيلى ” قبل استدعاء الروح القدس” ـ الخولاجى المقدس، لجنة التحرير والنشر بمطرانية بنى سويف والبهنسا ـ الطبعة الثالثة 1993، ص335.
[14] يوجد مثلاً مخطوط للأربعة أناجيل فى صورة أيقونات تمثل أهم أحداث المسيح وهو مخطوط تحت رقم 13 قبطى عربى بالمكتبة الأهلية بباريس، وهو نموذج ينطق بالروعة والجمال لتأريخ أحداث المسيح بالصور والأيقونات .