مقدمة في علم الليتورجيات - 2

ظهرت الدراسات الليتورجية ضمن فروع علم اللاهوت النظامي،
 وقد سميت قديمًا في كليات اللاهوت " الدرس الليتورجي". وكان الدرس الليتورجي عادة، عبارة عن دراسة تطبيقية حول الكتب الكنسية، وذلك فيما يتعلق بالطقوس وأشكالها وطرق تتميمها، وأيضا علاقتها بالرموز المعنية بالطقوس والنصوص الليتورجية، والأشياء الموجودة في الكنيسة.
هذه النوعية من الليتورجية معروفة في الغرب بـ (study of rubrics)، واهتمت هذه النوعية من الدراسة بكيفية تتميم العبادة وفق القوانين التي وضعت لتنظيم الطقوس المختلفة. 
للأسف لم تنشغل هذه الدراسات بإعطاء معنى عميق متسع للعبادة الإلهية، سواء في مجموعها أو في عناصرها الجزئية. أيضا لم تحدد مكانة التقليد الليتورجي بالنسبة للكنيسة وأعضائها. لقد ركزت هذه الدراسات غالبًا على الاهتمام بالمخطوطات الليتورجية، والوصف النظامي للعبادة اللاهوتية، مع إضافة مقدمات سريعة لاهوتية وتاريخية تخص تأسيس المسيح للأسرار وتطور العبادة والتسابيح. 
إن العناصر اللاهوتية التاريخية لليتورجية تحتوى على مثل هذه المقدمات.
وهكذا، وحتى وقت قريب، كانت الدروس الليتورجية تنتمي إلى رتبة التكميليات، أو الفروع العملية "التطبيقية"، والتي تخص فقط الإكليروس. هذا هو ما يُسمى بـ "اللاهوت الأكاديمي" الذي أُخذ من الغرب وقد اُنتقد كثيرًا بسبب قصوره (أنظر مثلا: مراحل اللاهوت الروسي للأب جورج فلوروفسكي[1].
قد انفصل علم اللاهوت ـ بقبول هذا المنهج الغربي ـ فترة طويلة عن التقليد الليتورجي الذي يمثل جذوره الطبيعية والحية. والنتيجة دُرِّست العبادة في كليات اللاهوت على أنها من ضمن القانون الكنسي، أو مع تاريخ الطقوس الكنسية [2]. وهكذا بهذه الطريقة قد أُغلق على الشهادة الحية لليتورجيا الكنسية، التي تخدم التفسير الصحيح لإيمان الكنيسة. 
المدرسة الليتورجية التاريخية 
بدون أن نبحث في التطور التاريخي للعبادة [3]، لا نصل إلى الفهم والتفسير الحقيقي لها، فقد ظهرت هذه الدراسات التاريخية في الغرب مبكرًا في القرن السابع عشر، على أيدي Isaac Hubert في كتابه  [4] " الطقوس والرئاسات الكهنوتية في الكنيسة اليونانية"، والعالم جوار acques Goar في كتابه [5] "الصلوات"، وهما اللذان وضعا الأساس لتاريخ العبادة، والذي بنى عليه بعد ذلك، كل الذين أتوا بعدهما. وهكذا استمرت الدراسات التاريخية في الغرب، ونجحوا في إصدار النصوص الليتورجية . هذه الإسهامات كانت عظيمة، ولكن كانت مجرد محاولة نحو الطريق إلى اللاهوت الليتورجي، أو تطور اللاهوت الليتورجي الأصيل. ومن ضمن الأسباب التي جعلت الليتورجية ليس لها تعاليم لاهوتية أصيلة في القرن التاسع عشر هو غياب الإحساس بـ "الأكليسييولوجيا" أي التعليم عن الكنيسة. فالكنيسة كجسد المسيح كانت غائبة في تعليم ما بعد القرون الأولي للآباء [6]. 
وهكذا إن نهضة الوعي الليتورجي يرتبط بنهضة إكليسيولوجية، أى بالرجوع إلى التعليم الأصيل عن الكنيسة. 
الحركة الليتورجية 
إن النهضة الليتورجية أو الحركة الليتورجية، والتي أدت إلى نمو اللاهوت الليتورجي، بدأت في وقت واحد وفي أماكن متفرقة للعالم المسيحي، في أزمنة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
إن جوهر هذه النهضة ينبع من إعادة الإكتشاف الأصيل للعبادة كحياة الكنيسة، كعمل جهاري مشترك يحقق طبيعة الكنيسة كجسد المسيح. كعمل جماعي لا يخص ليتورجية معينة فقط لحياة الكنيسة، ولا يعبر فقط عن وجه من أوجهها، لكن يحتضن ويعبر عن كل الكنيسة، جوهرها وطبيعتها وكل حياتها.
فالعبادة المسيحية كما قال L.Boyer : " ليست فقط تعاليم، ولكن عمل جهاري مشترك"[7]، هي شركة كل شعب الله في الخدمة الإلهية. إن النهضة الليتورجية هي الرجوع من الفهم الفردي للعبادة إلى عبادة تُعبّر عن طبيعة الكنيسة كجسد المسيح، فالعودة صارت بواسطة العبادة وبواسطة الكنيسة. كثيرون لا يفهمون الطبيعة الحقيقية للحركة الليتورجية بسبب سيطرة "اللاهوت الأكاديمي"، فالحركة ليست إلا يقظة جديدة حماسية للعبادة وللطقوس ومظهرها الخارجي، إنها نوع جديد من التقوى الليتورجية. إن الحركة الليتورجية تقودنا الآن نحو موضوع اللاهوت الليتورجي، ويجب أن نفهم أن الحركة في حد ذاتها ـ باستثناء مركز دير ماريا لاش Maria Laach، والذي يرتبط باسم Dom Odo Gasel لم تكن لاهوتية بمفهوم البحث النظامي الحقيقي، وبمفهوم تفسير التقليد الليتورجي. الرؤية الحقيقية تنشغل بوضع العبادة ومفهومها الحقيقي. وتكشف عن المبادئ الأساسية للاهوت الليتورجي، وتلفت النظر دائمًا ناحية العبادة، إذ تضع الخبرة الليتورجية في مركز حياة الكنيسة. بدون هذه النظرة يوجد عاملان خطيران هما : 
1ـ الخضوع للمطالب اليومية المعاصرة، بمعنى التغيير الجذري لطبيعة العبادة، وذلك برفض الأشكال القديمة للعبادة بلا تفكير. 
2 ـ الاهتمام بالشكل القديم، والارتياب من أى رؤية جديدة. 
يجب أن نضيف أنه مع أن النهضة الليتورجية قد انطلقت، على الأكثر من أماكن غير أرثوذكسية، لكن كان لها علاقة عميقة داخلية بكنيسة الشرق، لذلك قدموا هذا النوع من الدراسة اللاهوتية الأرثوذكسية الشيقة. 
إن زعماء هذه الحركة قد أعلنوا مرارًا، بأن العبادة الأرثوذكسية تمثل شاهدًا للصلاة العظيمة للكنيسة الأولى. فالكنيسة الأرثوذكسية كما شهد أحد زعماء هذه الحركة،Dom Olivier Rousseau ، حفظت الروح الليتورجية للكنيسة الأولى، واستمرت تحيا بها، وتستقي الحياة من منبعها [8]. من هذا المنطلق كان اهتمام الغرب بهذه الحركة، وهو عمل عظيم وقيّم، لكن هذا لا يعني قبول كل شئ بلا فحص، كما يقول الأب جورج فلورفسكي [إن الذاكرة الداخلية للكنيسة يمكن حقيقة، أن تُحّيي الشهادة الصامتة للنصوص][9]. وهكذا فإن استمرارية التقليد الليتورجي في الكنيسة الأولى، بالإضافة إلى الدراسات الليتورجية الغربية يقودان إلى معرفة أساس اللاهوت الليتورجي الأرثوذكسي الأصيل . 
طبيعة اللاهوت الليتورجي 
يمكننا الآن أن نحدد طبيعة اللاهوت الليتورجي، ووضعه ما بين البنية العامة لفروع اللاهوت ومنهجه. إن اللاهوت الليتورجي هو توضيح مفهوم العبادة، وعلم الليتورجيا لديه هدف دائم، وهو تفسير العبادة الليتورجية، وذلك على أساس الإيمان والحياة المعاشه للكنيسة. ومهمة اللاهوت الليتورجي عندئذ هو إظهار الأسس اللاهوتية لتفسير العبادة الإلهية، وكل التقليد الليتورجي للكنيسة . 
أولاً: يجب أن نوضح ونضع تحديدًا للمصطلحات المستخدمة، والتي تعبر عن الطبيعة الأساسية للخبرة الليتورجية للكنيسة . 
ثانيًا: أن نربط هذه التحديدات بالمفاهيم التي يستخدمها اللاهوت في صياغته للإيمان وتعاليم الكنيسة . 
ثالثًا: أن تقدم المعطيات الخاصة للخبرة الليتورجية للكنيسة في مجموعة واحدة، " كقانون صلاة " Lex Orandi  للكنيسة، والذي يحدد قانون الإيمان Lex Credendi. 
فلو أن اللاهوت الليتورجي ينطلق من الإيمان، بأن العبادة عمل جهاري مشترك للكنيسة، عندئذ فالهدف الكامل هو توضيح وتفسير العلاقة التي تربط هذا العمل بالكنيسة، أي كيف تُعبّر الكنيسة عن نفسها وتصل إلى كمالها بهذا العمل . 
إن تعليم الكنيسة ينظر إلى تقليد السرائر والطقوس المقدسة، كمنبع لإيمان الكنيسة وحياتها. وهكذا فإن الفهم الضيق للتقليد وللكنيسة، من ناحية اللاهوت المدرسي، يرجع إلى إهمال هذا المنبع. لكن الكنيسة الأولى تؤمن من البداية أن قانون الصلاة هو قانون الإيمان Lex Orandi Lex est Credendi. 
إن الصلوات والقراءات والتسابيح والطقوس، وكل ما يتعلق بأي عمل ليتورجي، يحوي في داخله التعليم اللاهوتي الأصيل للكنيسة. إذن اللاهوت الليتورجي هو فرع قائم بذاته، موضوعه هو التقليد الليتورجي للكنيسة، ولابد أن يكون له منهج يختلف عن مناهج الفروع اللاهوتية الأخرى. 
منهج اللاهوت الليتورجي 
ينبغي أن نتعرف على التطور التاريخي للعبادة الليتورجية، لندرك التكوين اللاهوتي لها، وهذا هو الجزء الكبير للاهوت الليتورجي. إن اللاهوت الليتورجي يوضح قانون الصلاة كقانون إيمان، فهو التفسير اللاهوتي لقانون الإيمان. إن عالم الليتورجيا ينشغل بالعنصر التاريخي واللاهوتي، وفوق كل شئ بالبنية الأساسية للعبادة الإلهية. هذه البنية الأساسية للعبادة الإلهية يمكن أن تعدل وتصحح السياق العام للطقوس الليتورجية، وأيضا كل ليتورجية على حدة. إن الأسبوع الليتورجي يمكن أن يصير مترابطًا ومتماسكًا، ولكن تظل النواة الأساسية هي:
الأحد كيوم الذكرى الإفخارستية لموت الرب وقيامته، والتي تحتوى على التقليد الليتورجي نفسه، وتمثل البنية الأولية والأساسية. نفس الشيء يسري على طقس الإفخارستيا، فلا يهمنا ما قد حدث من تطور مع مرور الزمن، فيما يتعلق بالشكل، لأنه في الواقع توجد بنية أساسية معينة. هذه البنية تكشف مفهوم الأفخارستيا وتطورها. أيضًا إن مفهوم البنية يجب أن يستخدم في طقوس السنة الطقسية وطقوس الأسرار. 
إن التطور التاريخى للعبادة الليتورجية يتتبع تشكيل بنية للعبادة وتطورها، بينما اللاهوت الليتورجي يكشف مفهومها. هذه البنية الأساسية هي في غاية الأهمية، إذ نجد فيها تعبيرًا كاملاً للخطة العامة للعبادة في مجموعها وعناصرها. هذه البنية تحدد لنا النظام الطقسى الليتورجى لكل عنصر، وتُظهر أهميته بالنسبة للعناصر الأخرى، وتعطي لنا تفسيرًا لاهوتيًا للعبادة، وتحررنا من الرموز العشوائية. ونحن لا نسعى إلى الفهم الفكري أو الذهني، ولكن إلى الفهم بواسطة المعايشة والصلاة.
 أيضا التقسيم الذي إبتدعه اللاهوت المدرسي، بين الطقوس العامة والخاصة [10]، هو تقسيم خاطئ ويؤدي إلى نتائج خطيرة، فليس من المعقول أن تندرج المعمودية مثلا تحت تقسيم الطقوس الخاصة. هذا التقسيم بين العام والخاص هو مضاد للمفهوم الأساسي والأوّلي للعبادة المسيحية كعمل عام للكنيسة، حيث لا توجد خصوصية إطلاقا ولا يمكن أن توجد، لأن هذا ضد طبيعة الكنيسة وجوهرها. أيضا الفكر المدرسي والذي اعتبر أن الإفخارستيا هي فقط مجرد سر من أسرار الكنيسة، قد همّش كل التقليد الليتورجي، الذي كان يرى الإفخارستيا مركزًا ومنبعًا لحياة الكنيسة، وليست لإرضاء مطالب المؤمنين الخاصة والفردية. 
إن هدف العبادة هو التعبير الدائم عن الكنيسة كوحدة الجسد والمسيح هو رأسها، وأن نعبد الله " بفم واحد وقلب واحد ". الإفخارستيا هي سر الكنيسة الأساسي، بمعنى تحقيقها كجسد المسيح، متحدة بالمسيح، بواسطة الروح القدس. وبالتالي فإن سر الإفخارستيا ليس أعظم أو أهم سر ليتورجي في الكنيسة، بل هو مصدر وهدف كل الحياة الليتورجية للكنيسة، فأي تعليم ليتورجي لا يأخذ الإفخارستيا كأساس للبنية الجامعة له؛ هو في الأساس تعليم ناقص. وعلى ذلك، يجب أن نعرف الخط أو الهدف العام الليتورجي، ثم بعد ذلك كل ليتورجية على حدة، وذلك مثل البناء تمامًا يجب أن نعرف التخطيط العام له، قبل أن ندرس كل وحدة على حدة. 
هكذا فإذا كانت الإفخارستيا هي مصدر وهدف الكنيسة، وهي مركز العبادة الليتورجية، فبقية الأسرار تقود إلى هذا المركز، لذلك فإن التعاليم اللاهوتية لكل سر ترتبط دائمًا بمفهوم طقس الإفخارستيا، وأيضا صلوات السواعي اليومية، والطقس الأسبوعي، والسنة الطقسية يجب أن ترتبط في دراستها بالإفخارستيا.
 وهكذا فإن الليتورجيات المتعلقة باحتياجات المؤمنين مثل سر مسحة المرضى، وسر الزيجة، وسر التوبة والاعتراف، وأيضا الصلاة على الموتى، وأي صلوة كنسية مثل صلاة الحميم، وصلاة تبريك المنازل ... الخ. كلها تصب في سر الإفخارستيا. 
وهكذا فإن هدف منهج اللاهوت الليتورجي، هو عدم تجزئة العبادة الكنسية لأجزاء متفرقة، ولكن تقديمها في كليتها، كتفسير " لقانون الصلاة "
الكنيسة والعبادة الليتورجية: 
إن الكنيسة الأرثوذكسية مازالت تحتفظ بتقليد ليتورجي مستمر، لكن الأمر الهام والضروري هو مكانة العبادة في حياة مؤمنيها. إن حياة الكنيسة صارت تقريبًا مقتصرة على الليتورجية وحُصرت فقط في العبادة، وأحيانًا المحبة نحو الكنيسة تصير مترادفة مع المحبة للأبنية الكنسية وأداء الطقوس. 
والخطورة تتمثل في الفهم الخاطئ لدور ومكانة العبادة في الكنيسة، وفي نشوء التغيير الخاطئ لمفهوم العبادة. إننا نتكلم عن شئ أهم من الفهم الخاطئ للنصوص، وللطقوس، أو للغة العبادة الإلهية، نحن نتكلم عن التناول الشامل للعبادة ومعايشتها. هناك اختلاف بين أداء العبادة وفهم طقوسها، بمعنى يوجد عدم توافق بين الهدف الأساسي للعبادة، والطريقة التي تفهم بها العبادة، وللأسف البعض لا يلاحظون هذا الاختلاف. 
إن المفتاح الذي يقود إلى فهم عبادة الكنيسة: هو الإيمان بأن العبادة المسيحية بطبيعتها وبنيتها ومحتواها تمثل إعلانًا وتحقيقًا لنفس طبيعة الكنيسة. وهذه الطبيعة هي الحياة في المسيح، الاتحاد في المسيح، واقتناء الروح القدس، ومعرفة الحق، ووحدة المحبة، والنعمة، والسلام، والخلاص .... بهذا المفهوم لا يمكن أن يكون هناك أي خلط بين الكنيسة والعبادة. فالكنيسة ليست موجودة من أجل العبادة، لكن العبادة هي التي توجد لأجل الكنيسة، لنموها وتقدمها " إلى قياس قامة ملء المسيح " (أف4: 13)
إن المسيح لم يؤسس جماعة لكي تحفظ العبادة، لكن كنيسة كطريق للخلاص، كحياة جديدة، جنس بشري مجدد. هذا لا يعني أن العبادة لها دور ثانوي داخل الكنيسة، بالعكس، هي لا تنفصل عن الكنيسة وبدونها لا توجد الكنيسة، فهدف العبادة هو التعبير عن الكنيسة وتحقيقها كشعب الله، جسد المسيح " جنس مختار كهنوت ملوكي " (1بط 2 : 9). 
إن الكنيسة بالعبادة تعبر عن اشتراكها في ملكوت الله، تعطينا وجه سر الأبدية الآتية، تعبر عن محبتها نحو الرب، والذي يسكن " داخلها " وشركتها مع الروح القدس. إن التناول المعاصر للعبادة يغيب عنه هذا المفهوم للعبادة: كتعبير عن الكنيسة وتحقيق لها. لذا على كل مؤمن يدخل الكنيسة، أن يدرك أنه مع الآخرين يمثلون الكنيسة، ومدعوين لأن يعبروا عن الكنيسة كحياة جديدة. 
للأسف من الخطأ أن تصبح مهمة العبادة هي إرضاء الاحتياج الديني للمؤمن بطريقة فردية، إذ لا تصير العبادة ـ في هذه الحالة ـ تعبيرًا ونموًا وكمالاً للكنيسة. البعض لا يعنيه مفهوم العبادة، إذ تُمارس على مستوى الاحتياج النفسي الفردي بمجرد الاشتراك في شعائر الصلاة. لكن العبادة هي تعبير عن علاقة الكنيسة بالعالم، هي الخميرة التي تخمر العجين "العالم"، وهي إعلان محبة الله نحو العالم، وشهادة ملكوت الله، وإنها الخبر المفرح للخلاص وللحياة الجديدة. 
من الخطأ أن تُعاش العبادة كهروب من العالم لفترة وجيزة، وأن تعتبر كنافذة أو كفتحة خروج في الوجود الأرضي تمر منه النعمة. 
إذن هدفنا أن نفحص" قانون الصلاة " للكنيسة ونفتش ونجد " قانون الإيمان "، وهذا هو أيضًا هدف اللاهوت الليتورجي. 
الطقس والتفسير الليتورجي 
أساس مصطلح طقس 
الطقس هو مجموعة القوانين الليتورجية (الطقسية) والتي تنظم العبادة الكنسية، وتسمى مجموعة القوانين هذه "التبيكون"[11] (TipikÒn) في طقس الكنائس البيزنطية. هذه القوانين تقدم الخطوط العريضة أو بنية العبادة في الكنيسة، ولا يوجد عبادة دون ترتيب معين أو نظام معين، لذا يحذرنا الرسول بولس قائلاً: " ليكن كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب" (1كو40:14) التبيكون لا يؤّمن فقط تقليد العبادة لكن يحمي العبادة من أي تدخل ذاتي من أحد، لذا الطقس يعبر عن التدبير الأرثوذكسي للعبادة. بالتأكيد إن الطقس ليس هو هدف في حد ذاته، ولا هو شيء ثابت غير متغير.
 الطقس يخدم العبادة لكن الكنيسة في مصداقيتها لا تعرف شكل واحد للطقس تلتزم به، فمثلاً يوجد تبيكون لدى الكنائس السلافية، وتبيكون طقس القديس سافا بأورشليم، أما الكنائس اليونانية فهي تعتمد على طقس دير ستوذيو بالقسطنطينية.
لكن بينما لا يوجد تبيكون موّحد في كل الكنائس الأرثوذكسية في العالم، فإن الكنيسة تعرف جيدًا البنية الأساسية للعبادة. الكنيسة منذ القرن الأول لها طقس للعبادة الكنسية، فالرسالة الأولى للقديس كليمندس الروماني توضح أنه على الأقل في كورنثوس وروما كان يوجد استخدام تبيكون للأعياد وساعات محددة للعبادة وإكليروس في رتب ثلاثة (أساقفة ـ كهنة ـ شمامسة)، وهؤلاء مميزون عن بقية المؤمنين المشتركين. هكذا الطقس ينظم كل الجسد. 
تطور الطقس 
إن عبادة الكنيسة هي حياة، لذلك تتحرك وتتطور وهي في حالة استعداد لكي تتجاوب ـ من حيث الشكل ـ مع الاحتياجات المعاصرة. إن شكل الطقس قابل للتغيير، لكن جوهره وهدفه يبقى ثابت غير متغير. لذلك فإن علم الليتورجيات يتفق على أن التقليد الأول للكنيسة لم يُفقد. لذا علينا أن نتعرف على بنية النص الليتورجي، " أى العناصر أو التركيبات أو المكونات التي تتكون منها أي وحدة ليتورجية كالقداس الإلهي، أو صلوات السواعي... الخ. فهذه كلها هي وحدات ليتورجية، ويشتمل كل منها على العناصر الليتورجية، فالنصوص الليتورجية في النهاية تشكل الوحدة الليتورجية "[12]
لذلك فإن الدراسة المقارنة للنصوص الليتورجية المختلفة تكون مفيدة للغاية، عندما نستطيع بواسطتها تفسير أو شرح نص ليتورجي لطقس من الطقوس، بمقارنته مع نفس النص في طقس آخر.
القوانين التي تحكم تطور النصوص الليتورجية [13]
1 ـ تطور النص الليتورجي ينتقل من التركيب الأكثر بساطة إلى الأكثر تعقيد. والتركيب الليتورجي الأكثر صرامة هو الأكثر بدائية. والمثال الواضح لذلك هو نص الديداخي أي تعليم الرسل (القرن الأول الميلادي). 
2 ـ النصوص الليتورجية ذات الأصول اليهودية هي أكثر قدمًا من تلك النصوص ذات الأصول الهيلينية، وبالتالي فإن أي نص ليتورجي لا مقابل له في أي نوع من صلوات المجمع اليهودي، يُعتبر أكثر حداثة من سابقه. والأصل اليهودي المسيحي يبدأ نصه الليتورجي بتحية الكاهن للشعب، ويعقبه مباشرةً فعل الشكر " نشكر Eucaristoumen ". أما الأصل الهيليني فهو أيضًا يبدأ بالتحية، ولكن يعقبه مباشرةً وبعد النداء "القلوب إلى فوق" صيغة ليتورجية مرتبطة بالطلبة " القلوب إلى فوق " دون فعل "شكر" يتبعها مباشرة. فالأنافورات التي من أصل يهودي تُرتب الصلاة فيها على أفعال الشكر " فلنشكر " وتلك التي من أصل يوناني بحت تُرتب الصلاة فيها على نداء " ارفعوا قلوبكم ". 
3 ـ النص الليتورجي الأقدم، هو الأقل تأثرًا بنصوص الكتاب المقدس، والأكثر حداثة هو الأكثر اقتداء بها، حيث يُنسج على نسقها. 
4 ـ النص الليتورجي الأكثر حداثة يُشحن غالبًا بعناصر تحوي كثيرًا من التعاليم الإيمانية التي تشرح الإيمان شرحًا مستفيضًا. أما الصيغ الليتورجية المبكرة كانت غالبًا خالية من مثل هذه العناصر. 
5 ـ النصوص الليتورجية الأكثر حداثة لها شكل خطابي حماسي، وتعتمد على الفصاحة وبلاغة اللغة، لذا لا نرى هذا في صلوات الديداخي، وأنافورا التقليد الرسولي لهيبوليتس. 



د جورج عوض
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية بالقاهرة 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] G.Florovsky ,Puti russkogo bogosloviya,paris1937,4,p85-127 
[2]J.M.Dalamais,Le Mystere..introduction a la theologie de la liturgie, Maison-Dieu,14,1948,p.67 
[3] أنظر N.N.Glubokovsky ، التطور التاريخي والحالة المعاصرة لعلم اللاهوت الروسيWarsaw1928,p.63-64 . 
[4] Isacc Hubert, Arcieratikon, Liberpontificalis Ecclesiae, Graecae, 1647. 
[5] EucolÒgion, Siveritual Graecorum, 1647. 
6 أنظر Y.M.Congar,Bulletin d Ecclesiologie 1939-1946in Revue Des Sciences philosophiques et theologiques. Xxxl,1947,77-96 and Jolons pour, une theologie du Laicat,paris,les Editions du cerf,1953,p.65 
7 L.Boyer,Le Mystere Pascal,Les Editions du Cerf,1947,p.9 
[8] أنظرDom Olivier Rousseau, Histoire du Mouvment Liturgique, Paris Les Editions du Cerf, 1945 ,p.188. 
[9] أنظر المرجع السابق ، ص 516 
10 المقصود هنا الفكر الخاطئ الذي يصنف الصلوات إلى جماعية وفردية، فصلاة الإفخارستيا هي عامة للكل أما المعمودية مثلاً بحسب هذا الفكر الخاطئ فهي طقس فردي لأنها تخص شخص بعينه، وهكذا أيضًا سر مسحة المرضي وهكذا. 
11 هذا المصطلح يوناني ويعني الكتاب الذي يحوي القوانين الليتورجية الخاصة بتنظيم العبادة في الكنيسة، من جهة القراءات، والأداء الطقسي للصلوات في الكنيسة مثل: صلاة عشية وباكر، وصلوات أعياد الميلاد والقيامة والصعود.. وأعياد القديسين.. الخ. وطبعًا لدي الكنيسة القبطية هذه النُظم والقوانين تُكتب كملاحظات في كتب الصلوات الكنسية، ومن المعروف أن قوانين هيبوليتوس القبطية (القرن الخامس) تدلنا على ما كان عليه الطقس القبطي وقتئذٍ، راجع الحلقة الأولي من الموضوع العدد العاشر يوليو 2002، ص 60. 
12 راهب من الكنيسة القبطية"، الكنائس الشرقية وأوطانها، الجزء الأول، مكتبة المنار 1999، ص135،134 . 
13 المرجع السابق ص 144ـ 148.