تعاليم لاهوتية فى النصوص الليتورجية - 1

1- الإفخارستيا والعقيدة المُعاشة 

معنى كلمة إفخارستيا
هي كلمة يونانية بمعنى الشكر من الفعل اليوناني Eucharist بمعنى يشكر. وَتْرِد الكلمة في المصطلحات الكنسِّية أحيانًا مصحوبة  بمعنى الشكر الإلهي. 
أي شكر نُعبّر عنه بتقدّمة ما سواء بالتسبيح أو بالصلوات أو بالذبائح، فالقديس ايريناوس [1] يري أن من الأهداف الأساسية لسرَّ "الإفخارستيا " هو أن يُقدِّم الإنسان ـ بلسان الخليقة كلهاـ شكرًا لله من أجل خلق العالم وما أُعطيَّ له من بركات. 
سرِّالإفخارستيا : 
أو سرِّ الشكر، هو ذلك السِّر الذي أسسه الربُّ يسوع نفسه في ليلة آلامه كما يروي لنا ذلك الإنجيليون الأربعة [2]
هذا وقد مارست الكنيسة الأولى هذا السَّر بعد قيامة الرَّب. إذ يخبرنا القديس لوقا كاتب سفر أعمال الرسل أن جماعة المؤمنين الأولى " وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، 
وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ" (أع42:2)، وهذا معناه أن الرسل قد سلَّموا لنا ما قد تسلَّموه وعاشوه من خبرة وشركة حياة [3] في الثالوث القدوس كي تحيا الكنيسة وباستمرار وعلى مرِّ العصور سَّر التدبير الإلهي الذي تممَّه المسيح مرَّة بتجسَّده وصلِبه وقيامته، وهكذا تُقدِّم ـ الكنيسة ـ "سرِّ الشكر الإلهي" فرحةً بما أعطاه الرَّب إياها يوم الخميس، إذ أنه من خلال الخبز والخمر الممزوج، وهبنا جسده ودمه لغفران الخطايا ولحياة أبدية . 
تُسمِى الكنيسة الإفخارستيا " بسِّر الشكر"، وهذا ليس معناه أنه شيء غامض أو غير مُعلَن لأن هذا هو عكس ما قد حدث إذ يقول معلَّمنا بولس الرسول " عظيم هو سِّر التقوى، الله ظهر في الجسد" فالله الذي لم يَرُه أحد قد اُستعلن في ابنه يسوع المسيح الذي أسس الكنيسة التي هي جسده وهو رأسها, وتَرَكَ لنا في كلَّ مرَّة نجتمع فيها معًا لنقدَّم " سِّر الشكر" جسده ودمه المحيّين حاضرين على المذبح[4].
أو كما يسمّيها القديس كيرلس " التقدَّمة حاملة الحياة " أو بعبارة القديس أثناسيوس " دواء عدم الموت " . 
فباجتماعنا لنقدَّم سَّر الإفخارستيا يُستَعَلن ملكوت الله فينا، أي استعلان أن الله يملك علينا، فالإفخارستيا هي تحقيق لوحدة شعب الله الجديد بعدما جُمع هذا الشعب بواسطة المسيح وفيه، فلقد أتي المسيح " لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ"(يو52:11).
 والكنيسة المجتمعة حول "سرِّالإفخارستيا" حتى لو اقتصر عدد أعضائها على " أثنين أو ثلاثة ", هي صورة جسد المسيح وعلامة حضوره . 
معنى كلمة سّر 
وهذا ما نفهمه نحن المؤمنين من كلمة سرِّ وما يُعبِّر عنه ذهبي الفم عندما يقول " نسميَّه سِّرًا " لأن الذي نؤمن به ليس هو ما نراه، بل إننا نرى شيئًا ونؤمن بشيء آخر، فحينما أسمع أحدًا يذكر كلمة المسيح أفهم معنى ما يُقال غير ما يفهمه مَنْ لا يؤمن[5]
لهذا ونحن نعيش اليوم عصرًا رهيبًا يهدد حياتنا الروحية، ونعيش عالمًا مليئًا بالأفكار الغريبة، عالم لم يَعُدْ فيه الرَّب هو مقياس كل الأمور بل الإنسان، بل صارت الأيدلوجيات فيه والمُثل العليا لا الإيمان هي التي تحدد الحالة الروحية للعالم، ولم يَعُدْ هذا العالم هو الذي أعلن المسيح أنه منحنا إياه. 
علينا إذن لمواجهة هذه الأزمة أن نولي اهتمامنا لا لمعاينة العناصر التي تتآلف منها الأزمة، بل سِّر الإفخارستيا والكنيسة التي تعيش هذا السِّر. فالكنيسة تؤمن إيمانًا راسخًا بعدم إمكانية فصل "قانون الإيمان" أي ما نؤمن به وما نعتقد فيه عن " قانون العبادة " أي عن الطريقة والتعبير الذي يعكس هذه العقيدة ويجسَّدها . فهما ينصهران معًا في بوتقة واحدة بشكل تصبح فيه " عقيدتنا مطابقة للإفخارستيا والإفخارستيا مثُّبتة لعقيدتنا[6]، وذلك لأن تدبير الله الخلاصي يَصلُ إلينا من خلال جسده أي في الكنيسة وسوف تظَّل الإفخارستيا قمة عبادتنا وأرفع تعبير عن إيماننا . 
أو كما يقول ق. يوستين المدافع والشهيد في النص الآتي الذي يوضح ارتباط الأفخارستيا بالتعاليم العقيدية فيقول: 
" ونحن ندعو هذا الطعام إفخارستيا (أي شُكر) ولا يستطيع أحد أن يشترك فيه إلاَّ مَنْ أمن أن تعاليمنا هي حق وقد تًظهرًّ بالمعمودية لمغفرة الخطايا والولادة الثانية ويعيش بحسب المباديء التي وضعها لنا المسيح. ونحن لا نشترك فيهما كخبز وشراب عاديين بل كما أنه بتجسد كلمة الله مخلّصنا يسوع المسيح متخذًا لنفسه جسدًا ودمًا لأجل خلاصنا، فإن هذا الطعام الذي تقدَّس بواسطة كلمات الصلاة التي قالها المسيح، يغذي جسدنا ودمنا إذ هو جسد ودم يسوع المتجسَّد كما تعلّمنا[7]
والكنيسة الأرثوذكسية تعتبر الإنسان مخلوقًا "ليتورجيًا" قبل كل شيء، يتحقق وجوده عندما يُمجِّد الله ويجد كماله وارتياحه في العبادة، لهذا وضعت الكنيسة كَّل خبرتها الروحية في الليتورجية التي تُعبِّر بها عن إيمانها أوضح تعبير، والمسيحية ديانة ليتورجية، والكنيسة قبل كل شئ جماعة مصلِّية والإنسان الأرثوذكسي يدخل إلى الحياة الروحية من خلال الليتورجية، والعقيدة تُفهم من خلال العبادة. 
وكلمة أرثوذكسي تعنى الإيمان القويم والعبادة الحقة في نفس الوقت لأن كلا الأمرين لا يفترقان. 
فليست العقائد مجرَّد نظام فكري يدركه الإكليروس ويشرحه للعلمانيين بل هي مجال فيه تُرى جميع أمور الأرض بالنسبة لعلاقتها بالسماء وذلك بنوع خاص من خلال خِدم الليتورجية . 
وبناءً عليه فإن الطقوس التي تُمارس والنصوص التي يُصلي بها أثناء الليتورجيات سواء كانت في سِّر الإفخارستيا أو باقي أسرار الكنيسة هي التعبير الواضح والقويم عن عقيدة الجماعة المسيحية فهي تعكس إيمانها بالنسبة لله الواحد مثلث الأقانيم وعمله الدائم من أجلها ومن أجل خلاصها منذ خلق الإنسان الأول، وكل مراحل التدبير الإلهي وإلى المجيء الثاني للمسيح في مجده. 
فنجد أن هذه الطقوس وهذه النصوص تضع أمامنا العقائد الأساسية الآتية في إشارات وحركات وعبارات دقيقة وعميقة المعنى : 
1 ـ الثالوث 2 ـ الخلق 3 ـ السقوط 4 ـ التجسد 5 ـ الروح القدس
 6 ـ طبيعة المسيح 7 ـ ماهيَّة الكنيسة 
فعلي سبيل المثال تطرح نصوص الليتورجيات (القدّاسات) الثلاث التي بين أيدينا (الباسيلي ـ الغريغوري ـ الكيرلسي) ما عَبَّر عنه ثلاثة من كبار آباء ومعلّمي العقيدة في الكنيسة الأولى وعلى وجه الإطلاق. وكان طبيعيًا أن تعكس هذه النصوص إيمان الكنيسة في عصور ظهرت فيها الهرطقات والبدع التي تنكر ألوهية الابن والروح القدس وتقسّم المسيح الواحد إلى اثنين، الأمر الذي يقود تباعًا إلى هدم الأساس الخلاصي لسرِّ العبادة الإفخارستي. فكما قلنا سابقًا إن العبادة الحقة لا تفترق عن الإيمان القويم. 
وما كان دفاع هؤلاء الآباء بل وكل آباء الكنيسة عن العقيدة إلاّ لأن الهرطقة كانت ستضّيع الجانب الخلاصي، وهو الأهم في كل عمل التدبير الإلهي من أجل البشرية. 
بل تأكيدًا لهذا المفهوم أصبح قانون الإيمان (نيقية ـ القسطنطينية) هو جزء أساسي ومهم في كلِّ عبادة ليتورجية وبالأخص أثناء تقديمنا لسرِّ الشكر (الإفخارستيا) بل إنه بداية ما يُسمي قداَّس المؤمنين. فبترديدنا قانون الإيمان هذا، نؤمن ونعترف بالعقائد الأساسية الآتية: 
1 ـ الله الواحد ـ مثلث الأقانيم. 2ـ الوهية الإبن المتجسد. 3 ـ التجسد ـ الفداء . 
4 ـ ألوهية الروح القدس. 5 ـ قيامة الأموات ـالدهر الآتي 6 ـ المعمودية الواحدة ـ الكنيسة الواحدة . 
وفي الطقس القديم ـ وعند الروم الأرثوذكس إلى الآن ينادي الشماس بعد قراءة الإنجيل وخروج الموعوظين [8] بعد انتهاء قداس الموعوظين " الأبواب الأبواب " ويبقي فقط المؤمنين الذين تعمَّدوا على اسم الثالوث ولهم الإيمان الأرثوذكسي المعَّبر عنه بقانون الإيمان والذين ـ في إيمانهم الواحد يجتمعون حول المسيح "والذي جمَّع فيه المتفرقون إلى واحد" ليقدَّموا له ذبيحة الشكر هذه وليثبتوا فيه وهو فيهم بتناولهم من "جسد الحياة" [9] فيحيوا إلى الأبد.
فالإفخارستيا إيمان واعتراف بالمسيح، هكذا يعلَّق القديس كيرلس عمود الدين نفسه في تفسيره لما جاء في إشعياء " فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: «إِنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ»" (إش6:6،7).
 فيقول القديس كيرلس [ نحن نقول إن الجمرة المتقدة هي مثال وصورة للكلمة المتجسَّد لأنه عندما يلمس شفاهنا أي عندما نعترف بالإيمان به فإنه ينقيِّنا من كلَّ خطيِّة ويحرَّرنا من اللوم القديم الذي ضدنا[10] وفي مفهوم الآباء ومنهم القديس كيرلس أن رؤيا إشعياء هي إعلان نبوي عن الإفخارستيا . 
فالإفخارستيا، وكما قلنا سابقًا هي اعتراف بالمسيح ما يعادله اعتراف كما أن التناول هو إيمان بالمسيح على أرفع الدرجات. 
ولهذا نسمع الكاهن عندما نتقدَّم لنتناول جسد الرب ودمه يقول: 
+ جسد حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا. 
+ دم حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا. 
+ يعطى لمغفرة الخطايا . 
+ وحياة أبدية لمن يتناول منه. 
وفي كلِّ مرَّة لابد وأن نجاوب بكلمة آمين والتي تعنى هنا "حقًا أؤمن واعترف"، وإلاّ لن نتقَّبل البركات السرَّية ونتقدَّس، هكذا يعلَّمنا القديس كيرلس عندما يقول: -
[ وإذ نكرز بموت ابن الله الوحيد حسب الجسد أي موت يسوع المسيح ونعترف بقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السموات فإننا نقدَّم الذبيحة غير الدموية في الكنائس، وهكذا نتقبل البركات السرِّية ونتقدِّس ونصير مشتركين في الجسد المقدس والدم الكريم للمسيح مخلَّصنا جميعًا].
 ثم يضيف:
 [ونحن نفعل هذا لا كأناس يتناولون جسدًا عاديًا، حاشا، ولا بالحقيقية جسد رجل متقدَّس ومتصل بالكلمة حسب اتحاد الكرامة ولا كواحد حصل على حلول إلهي، بل باعتباره الجسد الخاص للكلمة نفسه المعطى حياة حقًا، وبسبب أنه صار واحدًا مع جسده الخاص]. [11]
وعلى هذا القياس نستطيع أن نلمس أننا أثناء اجتماعنا لنقدَّم سرَّ الشكر نقدّم عبادتنا العقلية المبنَّية على أساس إيماني قويم بكلَّ عقيدة الكنيسة.. 


الدكتور/ جوزيف موريس فلتس 
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدرسات الابائية 



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ايريناوس : ضد الهراطقة الكتاب الرابع 4:18 . 
[2] متى26:26ـ30 مرقس12:14ـ22 لوقا14:22ـ24 يوحنا13 . 
[3] وهذا ما عبّر عنه يوحنا في رسالته الأولى إذ يقول في الإصحاح الأول " َلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً " (1يو1:1ـ5) . 
[4]كما نذكر في صلاة "الطلبة" في أسبوع البصخة المقدسة . 
[5] ذهبي الفم : عظة على الرسالة الأولي إلى أهل كورنثوس. 
[6] ايريناوس أسقف ليون: المرجع السابق . 
[7] القديس يوستين: الدفاع الأول فصل 66. 
[8] اقتصر هذا الطقس الآن عند الروم الأرثوذكس على نداء الشماس فقط باعتبار أن مَنْ هم بالكنيسة هم مؤمنون . 
[9] القديس كيرلس عمود الدين : د. موريس تاوضروس ـ الإفخارستيا عند القديس كيرلس ـ مركز دراسات الآباء 1994 ص 14 . 
[10]المرجع السابق. 
[11] رسائل القديس كيرلس إلى نسطور ويوحنا الأنطاكي: ترجمة د. موريس تاوضروس ود. نصحي عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء، القاهرة 1988 ص 28،29: وهنا نرى أن القديس كيرلس ينكر على نسطور قوله إن الجسد المقدَّم في الأسرار هو جسد إنسان وأنكر عليه أيضًا اعتقاده بأن الآلام هي آلام إنسان والقيامة هي قيامة إنسان والجسد الموضوع في الأسرار هو جسد إنسان". انظر د. موريس تاوضروس : الإفخارستيا عند القديس كيرلس، المرجع السابق ص 8 ـ 9.