ليتورجية المكان

 تاريخيًا كان المكان المخصص للعبادة له أهمية عظيمة فى العهد القديم، فمثلاً نجد فى (تك16:28ـ17) " فاستيقظ يعقوب من نومه وقال حقا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم. وخاف وقال ما أرهب هذا المكان ما هذا إلاّ بيت الله وهذا باب السماء".
الكنيسة المسيحية ، لم يكن لها ـ فى العصر الرسولى الأول ـ إمكانية تخصيص أماكن خاصة للعبادة، أى لم يتيسر لها إقامة كنائس. وهذا ليس معناه أنهم لم يخصصوا مكانًا فى أورشليم لاجتماع " كنيسة الله " .
إن ظهور المسيحية داخل البيئة اليهودية، وانحدار المؤمنين الأولين من الجذور اليهودية، يشرحان لنا علاقة الكنيسة الأولى بهيكل سليمان والمجمع اليهودى بعد قيامة المسيح. أما العشاء السرى أو الإفخارستيا فكان يُتمم فى بيت أو أكثر.
إذ يشهد سفر أعمال الرسل قائلاً: " وكانوا كل يوم يواظبون فى الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز فى البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب" (أع46:2). كانت العلية إحدى الأماكن المستقلة عن الهيكل والمجمع، التى فيها تُمم العشاء السرى، وأيضًا فى العلية نفسها حدث انسكاب الروح القدس يوم الخمسين.
لقد كانت العلية هى بيت أم مرقس الإنجيلى (أع12:2). وتعبير " الكنيسة التى فى بيتك " يشير إلى أماكن العبادة فى الكنيسة الأولى. أما الكنيسة المبنية خصيصًا كمكان لتجمع المؤمنين فقد عُرف فى وقت متأخر. 
كانت الكنيسة هى المكان الذى يتحقق فيه اجتماع الجسد الكنسى . ومصطلح "كنيسة" ـ "إكليسيا"  يونانى الأصل ويعنى الدعوة لاجتماع المدعوين معًا فى مكان واحد، وهكذا فقد كان التركيز هو على شركة المؤمنين واجتماعهم فى مكان واحد. وهذا ما أراد أن يوضحه اسطفانوس أمام المجمع: " لكن العلى لا يسكن فى هياكل مصنوعات الأيادى. كما يقول النبى السماء كرسى لى والأرض موطئ لقدمي. أى بيت تبنون لى يقول الرب وأى هو مكان راحتى" (أع48:7ـ49)، لقد رددّ اسطفانوس كلامًا مشابهًا لكلام المسيح فى (يو21:4): " إنه تأتى ساعة لا فى هذا الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب". 
أما منذ القرن الرابع، عندما صار بناء الكنائس مسموحًا به بحرية تامة، صار التركيز هو على الكنيسة كمبنى. وهذا أمر طبيعى. 
الهيكل المسيحى أو الكنيسة صارت الآن مكانًا دائمًا وثابتًا للعبادة المسيحية، واكتسبت أهمية خاصة ليست فقط كمكان اجتماع لكن كبناء. هذا التحوّل قاد إلى صياغة لاهوت يتناسب مع الاهتمام بالمبنى الكنسى.
 لاهوت ليتورجية المكان 
كما رأينا، فإن تشكيل الهيكل المسيحى نتج فى البداية من خبرة الاجتماع الإفخارستى، لذا فإن فكرة الهيكل ارتبطت بفكرة "السماء على الأرض": ".. إذا وقفنا فى هيكلك المقدس نُحسب كالقيام فى السماء"، لأن الإفخارستيا هى "صعود" المؤمنين إلى المذبح السماوى.
هذه الخبرة ظلت بلا تغيير وكموقف لاهوتى أساسى لمكان العبادة لدى الكنيسة، بالرغم من أن المعنى اللاهوتى للهيكل المسيحى تأثر بالطريقة الليتورجية للقرن الرابع، إذ اكتسب مفهومًا مستقلاً. لقد اُعتبر الهيكل "مكان مقدس" يحل فيه الله وسط "الجماعة المقدسة".
وبدأت فكرة إقامة الكنائس فوق عظام الشهداء عندما استشهد الأسقف القديس بوليكاربوس أسقف أزمير بآسيا الصغرى سنة 156م، إذ بدأ أولاده المؤمنون بأزمير بإقامة مائدة الإفخارستيا والصلاة فوق عظامه بعد استشهاده، على أساس أن ذبيحة الإفخارستيا تُقدم على مذبح عظام الشهيد القديس الذى قدم حياته بسفك الدم باسم المسيح.
وفى القرن الرابع ـ فى عصر الأباطرة المسيحيين ـ صار هناك اهتمام ببناء كنائس فخمة فى بعض العواصم. وانتقلت الصلاة كما يقول الأب ألكسندر شيميمان [1] من "العظمة الداخلية" إلى العظمة "الخارجية" خصوصًا بسبب ضعف الحرارة للمؤمنين بانتهاء فترة الاضطهادات.
لكن صلوات الكنيسة القبطية والتى تتميز بالوعى اللاهوتى العميق نتنسم فيها بكل وضوح روح الشماس اسطفانوس . وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد فى أوشية السلام المعنى العميق لمفهوم الكنيسة كما أوضحه اسطفانوس أمام المجمع عندما قال " لكن العلى لا يسكن فى هياكل مصنوعات الأيادى. 
كما يقول النبى السماء كرسى لى والأرض موطئ لقدمي.
أى بيت تبنون لى يقول الرب وأى هو مكان راحتى" (أع48:7ـ49). إذ يصلى الكاهن: " أذكر يارب سلام كنيستك الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية "، فيرد الشماس: "صلوا من أجل سلام كنيسة الله الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية"، فيكمل الكاهن قائلاً: "هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها. كل الشعوب وكل القطعان باركهم ..". 
هنا نجد إشارة واضحة بعدم انحصار كنيسة الله فى مكان محدد" فللرب الأرض وملؤها"، ومن جانب آخر فإن هدف الكنيسة هى تحويل كل العالم "من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها" إلى كنيسة، إلى بيت للرب لكى تتحقق فكرة "السماء على الأرض".
وفى هذا الإطار ترى الكنيسة إمكانية تقديس كل العالم والخليقة ولا يوجد مكان مقدس ومكان دنس، فما زال روح الله يرف على وجه الكون ليمنحه القداسة.
إن "الهيكل" أو "الكنيسة" أيًا كان شكل المبنى، فهو يخلق فينا الشعور والوعى والإدراك بدخول الله فى التاريخ وحضوره فيه، " فالكلمة صار جسدًا وحل بيننا" (يو14:1). يُفهم الهيكل المسيحى، عند ذهبى الفم، على أنه " مسكن الجميع المشترك" [2]، وفى نفس الوقت هو مكان ورمز للكنيسة شعب الله، والذين بينهم " يسكن ويسير الله " (2كو16:6)
وطريقة بناء الكنيسة حيث غربًا مكان المؤمنين وتنتصب المائدة المقدسة شرقًا لأجل المؤمنين بلا حواجز تفصل وتميز بين المقدس والنجس.
وحامل الأيقونات لا يفصل ولا يحجز ما هو مقدس عن ما هو نجس، بل يشير إلى شركة القديسين، أى العالم السماوى.
ويذكرنا دائمًا بأن " ملكوت الله قد اقترب" (لو9:10)، فهو لا يُعتبر حاجزًا يفصل بل يوّحد. 
إن وجود المائدة المقدسة فى مركز الهيكل متجهة ناحية الشرق نحو " شمس البر " الذى سوف يأتى من الشرق فى مجيئه المُمجد (مت27:24) يشير إلى التفات الكنيسة الدائم نحو " الرب الذى سيأتى " لكى يتقابل مع مؤمنيه (يو3:14).


دكتور / جورج عوض 
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ألكسندر شيميمان، النهضة الليتورجية، ص138، 139 (باليونانية). 
[2] تفسير إنجيل متى: P.G.57, 384.