تقضي القوانين الليتورجية في الكنيسة الأرثوذكسية بأن يُقام القداس الإلهي بعد الغروب في بعض أيام الصوم. ( خاص بالكنيسة البيزنطية )
هذه الأيام هي: الخميس والسبت من الأسبوع العظيم، عشيات أعياد الميلاد والظهور والبشارة. وعلى المنوال نفسه يُحتَفَل بقداس القدسات السابق تقديسها دائماً بعد الغروب.
فإذا أخذنا في اعتبارنا أن التيبيكون يحدد وقت الغروب على أساس الشمس وليس عداد الساعة، يكون الوقت المحدد لهذه القداديس المسائية تقريباً بين الثانية والخامسة من بعد الظهر.
معروف جداً أن هذه القواعد أصبحت حروفاً ميتة اليوم، أو بالأحرى هي محفوظة بالشكل، ولكن بطريقة لا يُنقَل فيها القداس إلى المساء بل تُقام صلاة الغروب في الصباح. ( هذا الامر يحدث ايضا فى الكنيسة القبطية )
ينبغي تفسير هذا الخرق للقانون على أنّه محض تلطُّف من الكنيسة على "ضعف الجسد"، كرغبة في تقليص فترة الامتناع عن الأكل عند المشتركين، إذ يمكننا أن نرى هذه الممارسة نفسها، حيث تُطبّق هذه القوانين بتدقيق وحيث لا يوجد أي محاولة للإذعان للضعف البشري.
في هذه الحالة، نحن مضطرون للتعاطي مع الإيمان، الراسخ بعمق في الضمير الكنسي المعاصر، بأن القداس الإلهي ينبغي دوماً أن يُقام في الصباح.
يظهر الاحتفال المسائي بالقداس كابتكار غير مسبوق عند الأغلبية من الشعب الأرثوذكسي، لا بل فوق ذلك هو شيء مستغرَب وغير طبيعي أكثر من الممارسة المعروفة في إقامة الغروب في الصباح والسحرية في المساء.
من ناحية ثانية، واضح أنّ كتّاب التيبيكون، في ضمّهم القداس إلى الغروب، رَموا إلى أكثر من ارتباط شكلي محض بين الخدمتين.
لقد عنوا نقلاً متعمّداً للقداس إلى المساء وتغييراً واعياً في الترتيب اليومي للخدَم. وأيضاً واضح أنّ في عدم تطبيق هذا القانون، أو في تطبيقه شكلياً فقط (أي في نقل الغروب إلى الصباح) نحن نرتكب مخالفة مزدوجة للقانون "typos" الليتورجي؛ إذ نقيم خدمة مسائية في الصباح، ما هو إلى جانب كونه "عملاً شكلياً" للصلاة، هو مناقض للحس المشترَك، وفوق هذا هو تجاهل للأسباب التي جعلت الكنيسة تحدد الاحتفال مساءً بالقداس في بعض الأيام وليس في الصباح.
ولكن ربّما إذا حققنا في هذه الأسباب سوف نرى فيها ما هو أكثر معنى من مجرّد تفاصيل في القواعد، ما هو منسي مع أنّه أساسي لفهم تقليدنا الليتورجي.
يمكن إيجاد التفسير الأكثر عمومية في التيبيكون نفسه. يحوي الفصل الثامن التعليمات التالية: "يوم الأحد، يجب أن مبدأ القداس عند الساعة الثالثة ؛(التاسعة صباحاً)، حتى يكون حلّ الصوم عند بداية الساعة الرابعة؛
يوم السبت، يجب أن نبدأ القداس عند بداية الساعة الرابعة، حتى يكون حلّ الصوم عند بداية الساعة الخامسة، وفي الأعياد الصغرى والأيام الأخرى، نبدأ عند الساعة الخامسة حتى يأتي حلّ الصوم عند الساعة السادسة".
إذاً عندنا هنا علاقة محددة بين زمن "kairos" القدّاس والصوم الذي يسبقه.
هذا "الصوم الإفخارستي" ينبغي إطالته أو تقصيره بحسب طبيعة اليوم الذي يُقام فيه القداس.
يعتبر التيبيكون أنّ الصوم الكامل قبل القداس بديهي، ولهذا، فالمعنى الشامل لهذه التعليمات هو أنّه مع ازدياد أهمية العيد يكون القداس أبكر وبالتالي تقصر فترة الصوم.
وهنا أيضاً، علينا أن نلاحظ أن ممارستنا الحالية تعارض القاعدة: نحن نميل إلى اعتبار الخدمة المتأخرة أكثر ملاءمة للأعياد الكبيرة، والخدمة في وقت مبكِر "كافية" لكل يوم.
قد تبدو توجيهات التيبيكون للوهلة الأولى مجرّد رفات لبعض القوانين الرهبانية القديمة التي، لسبب غامض، تتكرر في التيبيكون من طبعة لأخرى. مع هذا، إذا قمنا ببعض الجهد لترجمة هذه التعليمات الجافّة، فسوف نجد فيها لاهوتاً كاملاً للصوم في علاقته مع القداس.
بعد فهمنا لهذا، قد نتساءل ونقرر ما إذا كان الأمر شَرطِيّاً، نسبيّاً ومن الماضي، أو إذا كان فيه عنصر من التقليد ملزم لنا أيضاً. للكشف عن هذا ينبغي أن نفهم أن في هذه التوجيهات قد حُجِب مفهوم الصوم وخبرته الحيّة التي مصدرها الإنجيل نفسه والتي قبلَتها الكنيسة منذ البداية.
ينتشر اليوم اعتبار احترام هذه التوجيهات البديهية ذات المظهر القانوني هو مجرّد طقوسية وتمسّك حرفي لا يتلاءمان مع طريقة عيشنا العصرية، مع أنّ فيها يُكشَف فهم عميق للحياة البشرية في علاقتها مع المسيح والكنيسة. هذا ما سوف نحاول أن نظهره باقتضاب.
بحسب الأناجيل الإزائية، اتّهم الفريسيون المسيح بعدم الصوم (بينما هم وتلاميذ يوحنا كانوا يصومون كثيراً).
على هذا أجاب المسيح: "فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ." (مرقس 18:2، لوقا 33:5، متى 14:9).
تركّز هذه النصوص على الارتباط بين الصوم وخدَم المسيح المسيانية، لكنّ الصوم يصير مستحيلاً في فرح حضوره.
بشكل أعمّ، الصوم هو التعبير عن التوقّ، عن حالة الانتظار والاستعداد.
وهكذا، يقابل المسيح نفسه بيوحنا العمدان: "لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ..." (متى 18:11-19).
في هذا السياق، يوحنا المعمدان هو "مثال" ورمز للعهد القديم في علاقته بالعهد الجديد. العهد القديم هو زمان التهيئة والتوقّع وهو ينتهي مع ظهور الصوّام.
لكن ابن الإنسان "يأكل ويشرب" وتلاميذه أيضاً يأكلون ويشربون وفي الإنجيل نحن نرى دائماً السيّد يكسر الخبز مع العشّارين والخطأة في بيوت الفريسيين وأيضاً يقدّم المأكل للجموع. ففي المسيح ومعه يتكشّف الملكوت ويأتي.
وفي دراسة رموز الكتاب المقدس biblical typology، يُشار غالباً إلى الملكوت على أنّه وليمة، أي كسر للصوم (أنظر مثلاً إشعياء 6:25).
إنّ هذا التعليم الكتابي عن الصوم هو الإطار المسياني الخريستولوجي الذي حدّد مكان ووظيفة الصوم في الكنيسة منذ البداية. من جهة أخرى، الكنيسة بذاتها هي بداية الملكوت وتوقعه الأخروي.
العريس حاضر ويظهر حضوره في كسر الخبز، في المائدة الإفخارستية، التي هي التوقّع الأسراري لملء الملكوت، أي للمائدة المسيانية. في كتاب الأعمال، كسر الخبز هو حادثة أساسية لبناء الكنيسة أي الجماعة المسيانية (أعمال 42:2).
في هذا الاجتماع، في الشركة "koinonia"، ليس من مكان للصوم: المتوَقَّع قد تمّ، السيّد قد حضر "ماران أثا". لقد أتى، إنّه آتٍ، سوف يأتي... ولكن، من الجهة الأخرى، مع صعود المسيح، بدأ عهد جديد من الانتظار: انتظار المجيء الثاني parousia، مجيء المسيح ثانيةً بمجد، الإنجاز الذي به "يظهر المسيح الكل في الكل".
لقد انتصر الربّ وتمجّد، لكن تاريخ "هذا العالم" لم يتمّ بعد، إنّه ينتظر تحقيقه ودينونته. فيما كان تاريخ العهد القديم موجّهاً نحو مجيء المسيّا، تاريخ العهد الجديد موجّه نحو عودة الرب بمجده ونهاية العالم.
ما تعترف به الكنيسة سرياً، سوف يصير واضحاً عند نهاية العالم. وطالما الكنيسة حيّة والمسيحيون يعيشون في هذا العالم، فهم ينتظرون، ويتوقّعون هذا "المجيء الثاني"، يصلّون ويسهرون لأنّهم لا يعرفون متى يأتي ابن الإنسان. ولذلك يُعَبَّر عن هذا التوقّع في صوم جديد، أي في حالة جديدة من الانتظار.
هذا التوقّع، هذا الاشتياق، يتمّ باستمرار ويُستَجاب في سرّ حضور السيّد، أي في الوليمة الإفخارستية. إذ تعيش الكنيسة في الزمان، في التاريخ، تكشف بالفعل انتصار الأبدية، وتستبق مجد الملكوت الآتي.
وهذا "الصوم-التوقّع" يكتمل في السرّ، عندما نستحضر كلاً من مجيئي المسيح الأول والثاني في نفْس الاستذكار الأبدي، أيّ أننا نجعله حقيقياً وحاضراً.
وهكذا، يشكّل الصوم والإفخارستيا قطبين أساسيين لحياة الكنيسة يكمّل أحدهما الآخر، ويظهران التناقض الجوهري في طبيعتها: الانتظار والامتلاك، الملء والتطوّر، الأخروية والتاريخ.
تعطينا هذه الاعتبارات المفتاح لقوانين التيبيكون "التقنيّة" وتملؤها بالمعنى الروحي.
إنّها تعبّر عن مبدأ ليتورجي أساسي هو عدم ملاءمة الإفخارستيا والصوم:
لا يمكن ولا يجوز بأن يُقام قدّاس في يوم صوم. كون سرّ الإفخارستيا هو سر حضور المسيح فهو عيد الكنيسة، أو حتى أكثر من ذلك، إنّه الكنيسة كعيد، وبالتالي مقياس كل الأعياد وإطارها.
فالعيد ليس محض "تذكر" لهذا الحَدَث أو ذاك من حياة المسيح على الأرض، بل بالتحديد هو تحقيق حضوره في الكنيسة بالروح القدس.
وبالتالي كل حدث أو شخص يُستَذكَر في عيد، فإن استذكاره يكتمل بالضرورة في القدّاس، في "السرّ" الذي يحوّل الاستذكار إلى حضور.
تظهر الإفخارستيا الرابط بين كل الأحداث الهامة، كل القديسين، كل الإثباتات اللاهوتية مع عمل المسيح الخلاصي. أياً كان ما نستذكره أو نحتفل به، فإننا نكتشف دوماً – وهذا الاكتشاف يتمّ في القداس الإلهي - أنّ كلّ ما في الكنيسة يجد في يسوع المسيح بدايتَه ونهايتَه وكمالَه.
يمكننا أن نشير هنا إلى أنّ الكنيسة الأرثوذكسية لم تقبل يوماً مبدأ القداس غير الاحتفالي، على غرار "القداس الأدنى" عند الكاثوليك. فلفترة طويلة كان القداس طقساً ربّانياً بشكل جوهري لأنّه بطبيعته فصحي، وهو دائماً يعلن موت المسيح ويعترف بقيامته ويشهد لها.
المبدأ الثاني الذي يتبع الأول بالضرورة، هو أنّ فترة صيام تسبق كلّ احتفال إفخارستي. التوقع ينبغي أن يسبق الإنجاز. من وجهة النظر هذه، الصوم الإفخارستي ليس مجرّد امتناع قبل المناولة، بل هو بالدرجة الأولى توقّع واستعداد روحي.
إنّه صوم بالمعنى الروحي المذكور أعلاه، انتظار للمجيء الأسراري.
في كنيسة الأزمنة الأولى كانت تسبق الإفخارستيا سهرانية طوال الليل هي بالتحديد (ونظرياً ما تزال في الكنيسة الشرقية) خدمة الاستعداد والتهيوء، سهرانية بكل المعنى المسيحي للكلمة.
ولهذا السبب حُدّدت الإفخارستيا أيام الآحاد والأعياد في الساعات الباكرة من النهار: إنّها التمام والنهاية للسهرانية، خدمة الصوم والاستعداد.
أما في الأعياد الصغرى، حيث لا يوجد سهرانية فالاحتفال بالإفخارستيا يتمّ في آخر الصباح، إذ في هذه الحالة تشكّل ساعات الصوم الصباحية الفترة الضرورية من الاستعداد.
وهكذا، كل حياة الكنيسة الليتورجية، التي تحدد بدورها حياة كل فرد من الكنيسة، تقوم على هذا الإيقاع من التوقّع والإتمام، الاستعداد و"الحضور". عندها لا تعود القواعد التي تحكم هذا الإيقاع مهجورةً ومبهَمة، فتصير طريقاً تقودنا إلى قلب الحياة في الكنيسة .
لكن للصوم أيضاً معنى آخر، يكمّل الأول الذي شرحناه، وقد شددت الرهبنة عليه وطوّرته. إنّه الصوم النسكي، الصوم كحرب ضد القوى الشيطانية، كطريقة للحياة الروحية. يرجع أصل هذه الفكرة إلى الإنجيل. قبل أن يمضي المسيح إلى البشارة، صام لأربعين يوماً وفي آخر هذه الفترة دنا منه الشيطان (متى 3:4). في الإنجيل، نجد آية واضحة عن أنّ الصوم والصلاة هما الوسيلتان الوحيدتان للتغلّب على الشيطان (متى 21:17).
لا يتمم مجيء المسيح ثانيةً إلى العالم تاريخَ الخلاص وحَسْب، بل هو اللحظة الحاسمة في الصراع ضد الشيطان، الذي صار "أمير هذا العالم"
بحسب الكتاب المقدّس، بالأكل تغلّب الشيطان على الإنسان وصار سيّده.
تذوّق الإنسان الثمرة المحرّمة وبهذا صار مستَعبَداً للأكل، وصار كامل وجوده متوقفاً عليه. لهذا السبب، الصوم، من منظار كتابي، لا يتساوى مع مجرّد الاعتدال بالأكل مع نوع من الصحيّة الأولية.
الصوم الحقيقي، الامتناع الصحيح، أي الذي تمدحه الكنيسة في صوّاميها القديسين، هو بالواقع تحدٍ لقوانين الطبيعة ومن خلالها للشيطان نفسه.
إذ لا شيء يؤذيه أكثر، لا شيء يقضي على قوته، أكثر من هذا التعالي عند الإنسان على القوانين التي أقنعه بأنّها "طبيعية" و"مُطلَقة".
من دون الأكل يموت الإنسان وبالتالي تعتمد حياته بالكليّة على الطعام. ومع هذا، بالصوم، أي برفض الأكل طوعياً يكتشف الإنسان أنّه لا يحيا بالخبز وحده.
وهكذا يصير الصومُ الرفضَ لما صار "ضرورياً"، الإماتة الحقيقية للجسد الذي يعتمد كلياً وحصرياً على "قوانين الطبيعة التي لا فرار منها".
في الصوم، يصل الإنسان إلى الحرية التي فقدها بالخطيئة ، يسترد في الكون المُلْك الذي أبطله بتعديه إرادة لله. الصوم هو رجعة اختيارية إلى إتمام الوصية التي انتهكها آدم. بقبول الصوم، يحصل الإنسان مجدداً على الطعام كعطية إلهية، ولا يعود الأكل "ضرورة" ويصير الصورة الحقيقية للوليمة المسيانية إذ "كُلْ لتحيا" صارت مجدداً "عِشْ في الله".
فكرة الصوم هذه، المتجذّرة في صوم المسيح أربعين يوماً ومواجهته للشيطان، هي أساس الصوم النسكي ، الذي ينبغي تمييزه (لا فصله) عن الصوم الإفخارستي، المحدد أعلاه كحالة من الاستعداد والترقّب.
ما من شيء يظهر العلاقة بين أوجه الصوم هذه أو وظائفه كما يظهرها الصوم الكبير وتفصيلاته الليتورجية.من جهة، الآحاد والسبوت، كونها أساساً أيام الإفخارستيا، مستثناة "ليتورجياً" من الصيام.
ليس في هذه الأيام أي من العلامات الليتورجية المميزة للأيام الصيامية.
الصوم الإفخارستي محدد دائماً بإيقاع الإفخارستيا نفسها، حدّه هو الليتورجيا التي يرتبط بها كاستعداد للإتمام. إنّه يُنجَز ويُتَمم في تناول الطعام الإفخارستي. إذاً، الصوم الإفخارستي هو عمل من أعمال الكنيسة، لأنّه يتطابق مع حالة من حالاتها.
الصوم النسكي، من جهة أخرى، هو قبل كل شيء فردي كونه إنجاز شخصي للكنيسة. القواعد التي تتعلّق بهذا الصوم، والتي تختلف بحسب التقاليد المحليّة المتنوّعة، نسبيّة بمعنى أنّها بالدرجة الأولى دلالات على طريقة وطيدة وإرشاد أكيد، لكنّها ليست تعليماً مطلَقاً في الكنيسة.
تعتمد هذه القواعد على الجو، على طريقة الحياة في إطار اجتماعي محدد، على الظروف الخارجية، إلخ. الترتيبات بأكل التين في هذا اليوم والحبوب في يوم آخر، وهي توجيهات ما زلنا نجدها في التيبيكون، واضح أنّه لا يمكن قبولها حرفياً أو اعتبارها "مطلَقة".
الأمر المهم هنا هو فهم أن الصوم الإفخارستي هو صوم الكنيسة، بينما الصوم النسكي هو صوم المسيحي في الكنيسة. الأخير تحدده طبيعة الإنسان، الأول تحدده طبيعة الكنيسة. إذاً، خلال الصوم الكبير، يجد الصوم الإفخارستي خاتمته كلّ أَحَد في الملء الأخروي للسرّ، دون أن ينقطع الصوم النسكي، إذ إن الخبرة الدنيوية تثبت أن ثماره الروحية تنضج ببطء وتتطلّب جهداً طويلاً ومستمراً. ومع ذلك ليس بين الإثنين أي تعارض.
ينبغي أن يكون الغداء الرهباني في يوم أحد من الصوم الكبير "أكثر هزالة" من ناحية نوعيته الغذائية وكميته. ومع ذلك إنّه غداء أحد، كسر للصوم، إذ بعد الإفخارستيا والصوم الإفخارستي، هو ينتمي روحياً إلى خبرة الفرح والامتلاء التي هي جوهر الأحد المسيحي.
من المستحيل أن نشير هنا إلى كل المضمون اللاهوتي للصوم كما يرد ويقضي في تقليدنا الليتورجي. فقط يمكننا أن نشير إلى معناه الأساسي.
تحيا الكنيسة على مستويين، أي هي في "حالتين". إنها تنتظر، لكنها تمتلك ما تنتظره في الوقت عينه. في الزمن، في التاريخ، إنها فقط في "الطريق"، على طريقها إلى الملكوت، لكنهّا أيضاً ظهور هذا الملكوت.
ومعنى حياتها أنّ هاتين "الحالتين" ليستا مفترقتين الواحدة عن الأخرى، ولا تعارض الواحدة الأخرى تناقضاً جذرياً. تنشأ كل واحدة في الأخرى وهي مستحيلة من دونها.
الزمن وحياتنا في الزمن لا تُفرِّغهما الأبديةُ ولا تجعلهما سخيفين أو خلواً من المعنى، بل على العكس تعطيهما كل أهميتهما، كل معناهما الحقيقي.
إيقاع الكنيسة، إيقاع الإفخارستيا، الذي يأتي وهو دائماً على وشك أن يأتي، يملأ كل شيء بالمعنى ويضع كل الأمور في مكانها الحقيقي. لا يبقى المسيحيون هامدين بين القداس والآخر، حياتهم "الوقتية" ليست فارغة، لا تحطّ الأخروية من قدرها. إذ بالضبط، "الآخرة" الليتورجية هي ما يمنح القيمة الحقيقية لكل لحظة من حياتنا، حيث يُقاس كل شيء ويُقيَّم ويُفهَم في ضو ملكوت الله، الذي هو معنى ونهاية كل ما هو موجود.
لا يوجد ما هو أكثر غربة عن روح الليتورجية الأرثوذكسية من "ليتورجية liturgiologism" أو "أخروية eschatologism" تختزل كل الحياة المسيحية بالمناولة وتزدري بكل شيء آخر وكأنّه "تافه".
هذه التقوية الليتورجية لا تدرِك أن المعنى الحقيقي للإفخارستيا هو بالتحديد تمييز مجمل الحياة، وتحوّلها وجعلها مهمّة بلا انتهاء.
فالإفخارستيا تشهد على التجسد، وكونها محددة في الزمن، دخلت الزمن، فالزمن نفسه وكل لحظاته قد امتلأت بالمعنى واكتسبت أهمية في العلاقة مع المسيح. بالحقيقة، كل أمور الحياة، الكبيرة والصغيرة، كفّت عن كونها غاية وقيمة بحد ذاتها. أليست السخافة بالحقيقة في هذه العزلة والتمركز حول الذات؟ لكن الآن إذ فُهمَت من منظار الملكوت، يمكنها جميعاً وينبغي بها أن تصير علامات ووسائل لمجيء الملكوت، أدوات لخلاص العالم بالمسيح.
لهذا السبب، وأبعد من "الجمالية" الليتورجية أو "السُنَنية rubricism"، مهم جداً أنّ نسترجع المعنى الحقيقي للزمن الليتورجي الموصوف بهذه الطريقة البسيطة في التيبيكون. هنا حجبت الكنيسة كنز محبتها وحكمتها ومعرفتها "العملية" لله.
ينبغي تحرير ليتورجيا الكنيسة من "برنامج الخدَم" المبتَذَل لتصير مجدداً ما هي إيّاه: تقديس الزمان وبه كل الحياة، بحضور المسيح.
وحدها هذه الليتورجيا لا تقسم حياة المسيحي إلى حياتين، واحدة "مكرّسة" وأخرى "نجسة"، بل تتجلّى الواحدة في الأخرى، جاعلة الوجود بمجمله اعترافاً بالمسيح. فالمسيح لم يأتِ لكي نجعل حضوره رمزاً بل لكي يحوّل العالم ويخلّصه بحضوره.
علينا أن نفهم أن ليتورجيا الكنيسة واقعية بشكل عميق، أن لصلاة الغروب إلفة حقيقية مع هذا المساء المحدد: هذا هو المساء الذي علينا أن نقضيه "كاملاً مقدساً سلامياً وبلا خطيئة"، هذا هو المساء الذي علينا أن نقدمه ونكرّسه لله، وهذا هو المساء الذي أُنير لنا بنور مسائي آخر، ببلوغ آخر ننتظره وفي الوقت نفسه نخشاه، وهو يدنو في زمننا البشري.
في الليتورجيا، نكتشف كم تحترم الكنيسة الزمن والطعام والراحة وكل الأعمال، كل تفاصيل حياتنا. في العالم الذي صار فيه الله إنساناً، لا يمكن عزل أي شيء عنه.
الانتظار، اللقاء، الامتلاك: في هذا الإيقاع تغرق الكنيسة في الزمن وتقيسه.
لكن هناك أيام يبلغ فيها هذا الانتظار "تركيزه" الأقصى: أيام الإفخارستيا المسائية. لقد كرّست الكنيسة هذه الأيام ضميرياً وكليّاً للانتظار والاستعداد، للصوم بالمعنى الكامل. تُقضى هذه الأيام بالأعمال اليومية العادية التي تملأ كل الأيام الأخرى.
ولكن كم هو بلا حدود معناها، وكم هي مهمة ومسؤولة، كل كلمة ننطق بها في ضوء هذا الانتظار، وكل عمل نقوم! مع هذا، في هذه الأيام يُعطى لنا أن ندرك ما هي الحياة المسيحية وما ينبغي أن تكون عليه وأن نحيا من ثمّ وكأنّ هذه الأيام استنارت بما سوف يأتي! عشية الميلاد، هدوء السبت العظيم فوق الطبيعي، أيام الصوم الكبير التي نهيئ فيها أنفسنا لخدمة السابق تقديسها، كيف لكل هذا أن يبني النفس المسيحية ويقودها إلى فهم سرّ الخلاص، إلى تحويل الحياة...
وعندما يأتي المساء في النهاية، عندما ينتهي في الإفخارستيا كل هذا الاستعداد والانتظار الصياميين، تؤخَذ حياتنا فعلياً في هذه الإفخارستيا، وترتبط بفرح الملكوت وملئه.
إذاً، يمكن لقواعد الخدمة أن تكون لنا ما كانت عليه عند المسيحيين في الماضي، ويمكن لها أن تكون، قانوناً للصلاة، قانوناً للحياة.
الاب/ ألكسندر شميمن
orthodoxlegacy.org
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
St. Vladimir's Seminary Quarterly, Vol. 3, No. 1, Winter 1959, pp. 2-9