في هذه المحاضرة، بودّي أن أُشرككم في بعض الأفكار التي سبق أن اجتمعت لديّ على امتداد ما يزيد على العشرين سنة من الاشتراك في الخِدَم الأرثوذكسيّة الإلهيّة، سواء في روسيا أو في الخارج.
ما عندي لأقوله موجّه، بالدرجة الأولى، إلى الخدّام المسامين وإلى رجال الإكليروس المستقبليّين أكثر مما هو موجّه إلى عامة المؤمنين، وكل حياتي الكنسيّة الواعية كان ارتباطها بخدمة المذبح.
كنت شاباً صغيراً، في الخامسة عشرة، عندما دخلت، أوّل ما دخلت، هيكل الربّ، قدس أقداس الكنيسة الأرثوذكسيّة. من ذلك الحين صرت مساهما نَشِطاً في الخدم الإلهيّة. ومع أنّي كنت، قبل ذلك، أتردّد على الكنيسة بانتظام وأُصغي إلى كلام الخِدَم وأشترك في سرّ الإعتراف وأُساهم القدسات، فإنّي، فقط، بعد دخولي إلى الهيكل، حصل لي الاشتراك الحقيقي في الخدمة الإلهيّة، في السرّ، في "عيد الإيمان"، وهو ما استمرّ إلى هذا اليوم. إثر سيامتي، رأيت مصيري ودعوتي الأساسية في خدمة الليتورجيا الإلهيّة. والحقيقة أنّ كل شيء آخر، كالمواعظ والاهتمام الرعائي والعلم اللاهوتي، كان متمحوراً في نقطة مركزية واحدة في حياتي وهي الليتورجيا.
إنّ مدرسة اللاهوت الأرثوذكسي التي كوّنت فكري اللاهوتي لم تكن معهداً لاهوتياً أو أكاديمية أو جامعة بقدر ما كانت القدّاس الإلهي والخِدَم الأخرى. النصوص الليتورجيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة تخلّلت عقلي وقلبي بعمق بحيث أصبحتْ، إضافة إلى الإنجيل وكتابات الآباء القدّيسين، المعيار الأساسي للحقيقة اللاهوتية ومَعيناً لا ينضب للمعرفة في شأن الله والمسيح والعالم والكنيسة والخلاص.
الخِدَم الإلهيّة الأرثوذكسيّة كنز لا يُثمَّن، علينا أن نحافظ عليه بحرص. وإنّ خِدَماً مماثلة لِخِدَمنا كانت، في وقت من الأوقات، من نصيب الجماعات المسيحيّة الأخرى، أيضاً، لكنّها ضاعت، عبر القرون، نتيجة الإصلاح الليتورجي واللاهوتي.
فرص عديدة سنحت لي حضرتُ فيها خِدَماً بروتستانتيّة وكاثوليكيّة كانت، إلاّ فيما ندر، مخيِّبة للآمال. فالخِدَم البروتستانتيّة، كما هي القاعدة، تحتوي على سلسلة من الأفعال الصلاتية المعزولة غير المتماسكة. في البداية يعطي مُقيمُ الخِدمة (رجلاً أو امرأة) برَكة ما ثمّ يفتح الحاضرون كتاب الأناشيد على صفحة محدّدة ويأخذون في الإنشاد. بعد وقفة قصيرة يقرأ القسّ مقطعاً من الكتاب المقدّس ثمّ يعظ. يلي ذلك إنشَادٌ مشترك أو أداء على الأرغن أو غير ذلك. الجماعة، في العادة، تلقاها جلوساً، تقف، من وقت لآخر، لتعود إلى وضعية الجلوس من جديد. تتخلّل الخِدمَ شروحٌ يقدّمها القسّ ويشير إلى النشيد المطلوب إنشادُه والصفحة من الكتاب التي يوجد عليها، وما إذا كان على الحاضرين أن يُنشدوا جلوساً أو قياماً. خِدَمٌ كهذه لا تدوم، في العادة، أكثر من ثلاثين إلى أربعين دقيقة، وفي بعض الرعايا حتى موسيقى الروك جزء من الخدمة، وعلى وقعها يرقص أبناء الرعيّة.
وبإمكان المرء أن يضيف أنّه، بعد الإصلاحات الليتورجيّة للمجمع الفاتيكاني الثاني، أصبحت الخِدَم في بعض الكنائس الكاثوليكيّة شبيهة بالخِدَم البروتستانتيّة. هذه وتلك تشترك في النقص في التكامل وفي تعاقب الصلوات والأناشيد غير المتماسكة وغير المترابطة.
إنّ النصوص الليتورجيّة المستعملة في العديد من الكنائس غير الأرثوذكسيّة، فيما عدا الصلوات الأفخارستيّة وبعض الأناشيد القديمة، التي لا زالت في الاستعمال، غالباً ما يكون مضمونها اللاهوتي ضعيفاً، فيها، بعامة، الكثير من "التقوى" التي تجاور العاطفية، والقليل القليل من اللاهوت.
الخِدَم الإلهيّة الأرثوذكسيّة، سواء القدّاس الإلهي أو صلاة الغروب أو صلاة السَحَر أو صلوات الساعات أو صلاة النوم، هي شيء آخر تماماً. من وقت إعلان الكاهن، مطلعَ الخدمة، تلقانا مغمورين بمناخ من الصلاة غير المنقطعة تتبع فيها المزامير والطلبات والستيخيرات والطروباريات والصلوات وأدعية الكاهن، مُقيمِ الخدمة، أقول تتبع إحداها الأخرى في سيل متواتر. كل الخدمة تُساق كما في نَفَس واحد ونغميّة واحدة، كمثل سرٍّ يتكشّف، لا شيء فيه يُلهي عن الصلاة. فإنّ النصوص الليتورجيّة البيزنطيّة المشبعة بالمضمون اللاهوتي السِرّاني mystical تتعاقب، وكذا التعويذة الصلاتية للمزامير التي تتردّد كلُّ كلمة من كلماتها في قلوب المؤمنين. حتى العناصر الحركانية (choreography)، التي تميِّز الخِدَم الأرثوذكسيّة، كمثل الدخول والخروج البهيَّين، والسجدات والتبخير، ليس القصد منها أن تُلهي عن الصلاة بل، بالعكس، أن تضع، المؤمنين في حال صلاتية وأن تجتذبهم إلى الخدمة الإلهيّة التي لا تشترك فيها الكنيسة الأرضيّة وحدها، وفق تعاليم الآباء القدّيسين، بل الكنيسة السماويّة أيضاً، وكذلك الملائكة.
النصوص الليتورجيّة كمدرسة لاهوت
واسمحوا لي، الآن، أن أنتقل إلى المغزى اللاهوتي والعقائدي للنصوص الليتورجيّة. في نظري، للنصوص الليتورجيّة، بالنسبة للمسيحيّين الأرثوذكسيّين، سلطة عقدية لا جدال فيها، وهي، لاهوتياً، بعد الكتاب المقدّس، لا تُدانى. ليست النصوص الليتورجيّة مجرد أعمالِ لاهوتيّين وشعراء بارزين، بل هي، أيضاً، ثمار الخبرة الصلاتية لأولئك الذين بلغوا القداسة والتألّه. إنّ السلطة اللاهوتيّة للنصوص الليتورجيّة هي، في رأيي، فائقة حتى على أعمال الآباء القدّيسين، من حيث إنّه ليس كلُّ شيء في أعمال الآباء ذا قيمة لاهوتيّة واحدة وليس كل شيء فيها مقبولاً لدى الكنيسة برمّتها. هذا، فيما النصوص الليتورجيّة مقبولة في الكنيسة كلّها كـ "قانون إيمان" (Kanon pisteos)، وهي تُقرأ وتُرتَّل، في كل مكان، في الكنائس الأرثوذكسيّة، من قرون خلت. خلال كل ذلك الوقت، أيُّ أفكار مختلّة غريبة تسلّلت إلى الأرثوذكسيّة، نتيجة سوء فهم ما أو عدم انتباه، هذه أزالها تراث الكنيسة عينُه مخلِّفاً لنا عقيدة نقيّة ذات سلطان في وشاح من الأشكال الشعريّة للأناشيد الكنسيّة.
هذا يصحّ على الدورة اليوميّة للخِدَم الليتورجيّة، كما يرتِّبها التيبيكون الأرثوذكسي، ويصحّ أيضاً على الدورة الأسبوعيّة والسنويّة كما تَستبين في كتب المعزّي (الألحان الثمانية) والتريودي والبنديكستاري والميناون حيث تتضمّن النصوص الليتورجيّة شروحات وتأمّلات في أحداث عدّة من حياة الربّ يسوع المسيح وسِماتٍ من تعليمه. بهذا المعنى، بإمكان المرء أن يقول إنّ النصوص الليتورجيّة هي "إنجيلٌ بحسب الكنيسة المقدّسة". فعلى امتداد السنة الكنسيّة، من ميلاد السيّد إلى صعوده، تَمثُل الحياة الأرضيّة للربّ يسوع أمام العين الروحيّة للمؤمنين. النصوص الليتورجيّة تُدنينا من المسيح في مولده في بيت لحم، وعلى جبل ثابور حيث تجلّى، ومن علِّية صهيون، في العشاء الأخير، وكذا من الجلجلة والصلب.
ليست النصوص الليتورجيّة مجرّد تعليقات على الأناجيل المقدّسة إذ تتناول، في حالات عديدة، ما تَعبر به الأناجيل بصمت. أودَّ أن أُعطي مثلاً على ذلك من خدمة الميلاد المجيد. فإنّ قراءة الإنجيل تتناول، باقتضاب، مولد المسيح: "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لما كانت مريم أمّه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وُجدت حُبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارّاً ولم يشأ أن يُشهرها أراد تخليتها سرّاً" (مت 1: 18 – 19).
الكثير مما جرى في ذلك الحين بقي مخبوءاً عنّا. مثلاً، ثمّة صمت في شأن معاناة يوسف الشخصيّة بإمكاننا فقط أن نخمِّن ما كانت عليه مشاعره وشكوكه، وكذا ما يختصّ بالكلمات التي تفوّه بها عندما درى بحَبَل خطيبته. أما النصوص الليتورجيّة الأرثوذكسيّة فتحاول أن تخلق، في حلّة شعرية، حواراً بين يوسف ومريم:
"قال يوسف للعذراء: يا مريم، ما هذا الذي أراه فيك؟ أنا في ضياع، منذهلٌ ومرتعب. يا مريم، ما هذا الذي أراه فيك؟ فإنّك جلبت لي العار بدل الشرف والحزن بدل الفرح والتعيير بدل الافتخار. لا أستطيع، من بعد، أن أُطيق تعيير الناس، فإنّي اقتبلتُكِ بلا عيب من كاهن هيكل الربّ، فما هذا الذي أراه؟"
"عندما انجرح يوسف، حزناً، يا عذراء، وهو في الطريق إلى بيت لحم، هتفتِ به قائلة: لِمَ اراك مُضنى من الحزن، مشوّشاً، ولا تعرف أنّ ما حدث لي هو جزء من سرّ رهيب؟ ولكنْ ضعْ، الآن، خوفك، جانباً وعِ الأحداث المجيدة، فإنّ الله، برحمته، نزل إلى الأرض وهو، الآن، في حشاي، متّخذاً جسداً. عندما تراه مولوداً، كما شاء، سوف تُفعَم فرحاً وتسجد له من حيث هو خالقُك".
بإمكان المرء أن يعتبر مثل هذه النصوص "اختلاقاً شعرياً" أو "بياناً كنسياً"، أو ما هو أكثر من ذلك – ضرباً من التبصّر فيما خصّ مشاعر وخبرات أولئك الذي تكوِّن حياتُهم التاريخ المقدّس. كتّاب الأناشيد البيزنطيون استعملوا مسارد غنيّة جداً من التقنيّات الأدبيّة فتكلّموا على "ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولم يخطر في بال إنسان" (1 كو 2: 9)، وكذا على الأسرار التي تتخطّى حدود العقل البشري لكنّها تُدرَك بالإيمان، وبالإيمان وحده. هناك العديد من الحقائق السِرّانية mystical في المسيحيّة يعسر الإفصاح عنه نثراً، هذا يؤدَّى، شعراً، بشكل أفضل وأقرب إلى أفهام المؤمنين.
وثمّة مثل آخر في النصوص الليتورجيّة يصف نزول المسيح إلى الجحيم. لا تقول الأناجيل شيئاً، بصورة مباشرة، عن هذا الحدث؛ فقط تلقاه مذكوراً، بإيجاز، في الرسالة الأولى من بطرس (1 بط 3: 18 – 21؛ 4: 6).
في الكنيسة الأولى، كان الاعتقاد بنزول المسيح إلى الجحيم قوياً وثمّة صدى له، مثلاً، في العديد من الكتابات المنحولة، كما في "الإنجيل بحسب برثولماوس" و "الإنجيل بحسب نيقوديموس". ثمّ من المصادر الأدبيّة المسيحيّة المبكّرة، انبثّت مؤشّرات النزول إلى الجحيم، في وقت لاحق، في أناشيد القدّيسَين أفرام السوري ورومانوس المرنّم، ومنها شقّت طريقها إلى كتبِ الخدم في الكنيسة الأرثوذكسيّة. وإنّ ثمّة العديد من النصوص في المعزّي والتريودي والبنديكستاري مخصَّص لهذا الموضوع.
النصوص الليتورجيّة للسبت العظيم، بخاصة، مميَّزة، على هذا الصعيد. السبب قابليتها في إدراك المغزى اللاهوتي للأحداث. فإنّ النقطة المحوريّة في صلاة سَحَر السبت العظيم هي قراءة أبيات من المزمور 117/ 118. هذه أضيفت إليها تسابيح وضعها كاتبٌ مجهول قبل أفول القرن الرابع عشر. موضوعات هذه التسابيح عديدة بينها ألمُ ابن الله وموتُه (ويُشار إليه، بتواتر، بأنّه "طوعي") إتماماً لمشيئة الآب الذي أرسله لخلاص العالم. وهي تتكلّم، بخاصة، على والدة الإله التي وقفت بصليب المسيح وبكت عليه. بعض "التسابيح" موجّه لوالدة الإله ويوسف الرامي، فيما تسابيح أخرى مكتوبة عن والدة الإله وموجّهة إلى يسوع. كذلك، في تسابيح أخرى، يتوجّه المؤلِّف إلى يهوذا ويتّهمه بالخيانة، فيما، في نصوص أخرى، يزدري اليهودَ الذين لم يقبلوا المسيح وأسلموه إلى ميتة عار.
غير أنّ الموضوع المركزي للتسابيح هو فداء المسيح وخلاصه للجنس البشري، وقد نزل إلى الجحيم. فإنّ الإله المتجسّد إذ بحث، في الأرض، عن آدم الساقط، ولمّا يجده، نزل إلى أعماق الجحيم ليفتديه. وكما في العديد من الأناشيد من كتاب المعزّي، هنا، أيضاً، العلامة الكونية للفداء بالمسيح يجري تأكيدها. تُنشِد هذه "التسابيحُ" إقامة المسيح للراقدين، وهو ما يوصف بمثابة استلاب للجحيم:
"يا ربّي يسوع المسيح، ملك الكل، عمَّن جئتَ تبحث في الجحيم؟ أم تراك جئتَ تخلّياً عن البشريّة؟"
"كيف يطيق الجحيم مجيئك، يا مخلّص؟ ألا يحزن ويتألّم ويعمى من بزوغ مجدك؟"
"لقد نزلتَ إلى الأرض لتخلّص آدم، وإذ لم تجده هناك، يا سيّد، التمستَه في الجحيم".
"كمثل حبّة حنطة دخلتَ أعماق الأرض فأثمرتَ سنابل عديدة غنيّة إذ أقمت البشريّة المتحدّرة من آدم".
"في القبر كنت، وإلى الجحيم نزلت، رغم ذلك أفرغتَ الأجداث وبعثرتَ الجحيم، يا مسيح".
"أيّها الكلمة، إنّك، طاعة لأبيك، نزلت حتى إلى الجحيم المهيب وأقمت البشريّة".
"الجحيم ارتاع، يا مخلِّص، لما رآك، أنت معطيَ الحياة، مفسِداً غناه، مقيماً الموتى منذ الدهور".
وثمّة نصّ آخر مهم من السبت العظيم، أعرق من "التسابيح"، وهو قانونٌ كتبه عدّة مؤلّفين يعودون إلى ما بين القرنين الثامن والعاشر للميلاد. طروباريات هذا القانون، وهي موجّهة إلى ابن الله، المسجّى والناهض معاً، تشير إلى خراب الجحيم بنزول المسيح وإطاحة قوّته.
هذه موضوعات جرى التعبيرُ عنها ببلاغة فذّة:
"الجحيم يسود البشريّة، ولكنْ لا إلى الأبد، لأنّك أنتَ موضوعٌ في القبر عن إرادة، وبيدك، الواهبةِ الحياة، حطمتَ مفاتيح الموت وكرزت للراقدين منذ الدهر، من حيث إنّك الخلاصُ الذي لا يخيب والبكرُ من بين الأموات".
"جُرح الجحيم لما اقتبل في حضنه مَن جُرح في جنبه بحربة، وهو يتنهّد بعدما انقهر للنار الإلهيّة لخلاصنا نحن المرتّلين: مبارك أنت يا الله مخلِّصنا".
لتبتهج الخليقة وليفرح الأرضيّون قاطبة لأنّ العدوَ، الجحيمَ، قد انقبض عليه. لتلتقيني النسوةُ بالمرّ لأنّي نجّيت آدم وحوّاء، جدَّيَّ الجنس البشري، ثمّ في اليوم الثالث أقوم من الأموات".
هذا ومغزى تضيحة المسيح الخلاصية مُورَدَةٌ في قراءة السنكسار، من القرن الرابع عشر، وهي توجز المضمون اللاهوتي للأناشيد الليتورجيّة الخاصة بالسبت العظيم:
"في السبت المقدّس العظيم نقيم تذكار دفن الجسد الإلهي ونزولِ ربّنا وإلهنا ومخلِّصنا، يسوع المسيح، إلى الجحيم، وهو الذي به قامت البشريّة من الفساد وولجت الحياة الأبديّة... كلمة الله ينزل إلى القبر، في الجسد، ثمّ ينزل إلى الجحيم في نفْسِه الإلهيّة غير الفاسدة، المفصولة عن الجسد بالموت والمستودَعة في يدي الآب السماوي، الذي إليه قَرّب دمَه، خلاصَنا، مع أنّ الآب لم يطلب ذلك منه. فإنّ نفْس الربّ لم تُستأسَر للجحيم كما هو حال نفوس القدّيسين الآخرين... عدوّنا الشيطان لم يُقبَض عليه بالدم الذي به افتُدينا، مع أنّه قَبض علينا. فإنّه كيف للصّ، الشيطان، أن يستأسر لا فقط مَن هو مرسَل من الله، بل اللهَ نفسَه أيضاً؟ لقد نزل ربّنا يسوع المسيح، بكل جرأة، إلى القبر، بجسده بعدما اتّخذ جسداً بالكامل. كان مع اللصّ في الفردوس، وفي الجحيم، كما يُقال، بنفْسه الإلهيّة. كذلك كان مع الآب، على نحو فائق للطبيعة، جالساً مع الروح القدس على نحو لا يُنطق به، وفي كل مكان أيضاً، غيرَ مألوم في لاهوته لا في القبر ولا على الصليب. جسد الربّ واجه الفساد وكابد انفصال النفس عن الجسد، لكنّه، ولا بأي حال، تعرّض للبلى أي لانحلال الجسد في أعضائه... إذ ذاك انغلب الجحيم بمهابة وقد شعر باقتداره. ثمّ، بعد فترة وجيزة، لفظ مَن ابتُلع، عن غير حقّ – المسيحَ الذي هو حجر الزاوية القوي – وأولئك الذين كانوا معتقَلين في جوفه منذ الدهر".
إنّ الموضوع المحوري لهذا النصّ هو عقيدة الفداء المعبَّر عنها هنا بألفاظ شبيهة بالألفاظ التي استعملها لاهوتيو القرنين الثالث والرابع الميلاديَّين. ففي القرن الثالث، اعتبر أوريجنيس أنّ ابن الله، على الصليب، استودع روحه في يدي الآب السماوي، وأعطى نفسه للشيطان فداء للبشريّة: "لمَن أعطى الفادي نفسه فدية عن كثيرين؟ لا لله. لِمَ، إذاً، للشيطان؟ نفْس ابن الله، لا روحُه، أُعطيَت فديةً عنّا حيث سبق فأسلم روحه لأبيه بالكلمات التي تفوّه بها: "في يديك أستودِع روحي" (لو 23: 66)؛ ولكن لا جسده، لأنّنا لا نجد إشارة إلى ذلك في الكتاب المقدّس". غير أنّ
القدّيس غريغوريوس النزينزي اللاهوتي دحض مثل هذا الفهم للفداء: "لمَن ولماذا كان على مثل هذا الثمن أن يُدفَع؟ إذا كان للأثيم، فهذه إهانة! فإنّ اللصّ إن اقتبل فدية لا يكون قد اقتبلها من الله، بل يكون قد اقتبل اللهَ نفسَه!" هذه الكلمات بالضبط، للقدّيس غريغوريوس، هي ما استشهد به كاتب السنكسار.
وهناك فكرة أخرى يبسطها السنكسار وهي أنّ جسد المسيح، من حيث كونُه خاضعاً للفساد (phthora) لم يتعرّض للانحلال (diaphthora). هذا الطِباق التعبيري سبق للقدّيس يوحنا الدمشقي أن أدخله ردّاً على تعليم aphthartodocetists القائلين بعدم فساد جسد المسيح.
أخيراً، وليس آخراً، مفهوم الجحيم الذي انخدع أثناء نزول المسيح موسَّعٌ في السنكسار. هذه الفكرة التي تنعكس، أيضاً، في عظة القدّيس يوحنا الذهبي الفم الفصحية، مردّها نظريّة القدّيس غريغوريوس النيصصي في كيف خدع الله الشيطان، بعدما خبّأ كُلاّبَ (hook) لاهوته في هيئة طبيعته البشريّة. وإذ ابتلع الجحيم الطُعم ابتُلع، أيضاً، الكُلاّب الذي حطّمه من الداخل. إذا بدت هذه الصورة، في عرض القدّيس غريغوريوس النيصصي، وكأنّها مصطنعةٌ أو مُقحَمةٌ، بعضَ الشيء، فقد جرى التعبير عنها، في النصوص الليتورجيّة، على نحو مقنع، إذ تتناول هذه النصوص لا كيف "خدع" الله الشيطان بل، بالأحرى، كيف "انخدع" الشيطان إذ ظنّ المسيحَ شخصاً عادياً.
بإمكاننا أن نرى، إذاً، أنّ النصوص الليتورجيّة الخاصة بالسبت العظيم، تتناول لا فقط حدثاً لا ذكر له في الأناجيل، بل تعرض، أيضاً، فهماً لاهوتياً عميقاً له. الآيات المقتضبة والمصقولة للنصوص الليتورجيّة تنطوي على جَميعة (synthesis) الأفكار التي شكّلت موضوع أطروحات لاهوتيّة برمّتها عبر قرون خلت.
بالإمكان إبراز عدد آخر من الأمثلة، ولكنْ، في ظنّي، ما أوردتُه، أعلاه، كاف ليبيِّن، للمسيحي الأرثوذكسي، المغزى المميّز للنصوص الليتورجيّة للكنيسة. من خلال هذه النصوص يمسي الاشتراك في الخِدم لا فقط مدرسة صلاة بل مدرسة لاهوت أيضاً، وكذا تأملاً لله ومعرفة.
هل إعادة النظر في النصوص الليتورجيّة ممكن؟
منذ سنوات خلت قرأت مقالة قصيرة في مجلة للكنيسة القبطية ورد فيها أنّ هذه الكنيسة قرّرت أن تُسقط الصلوات المرفوعة من أجل الذين هم في جهنّم، من كتب الخدمة. والسبب هو أنّ هذه الصلوات "تُخالف التعليم الأرثوذكسي". حيّرني المقال فقرّرت أن أسائل ممثّلاً للكنيسة القبطية في موجبات هذا التحرّك. وحديثاً، سنحت لي الفرصة أن أفعل ذلك، فأجاب متروبوليت قبطي أنّ القرار اتّخذه المجمع المقدّس. السبب، حسْبَ العقيدة الرسمية، هو أنّه لا صلوات يمكن أن تساعد الذين في جهنّم. أطلعتُ المتروبوليت على أنّه في الممارسة الليتورجيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة وسائر الكنائس الأرثوذكسيّة المحليّة، ثمّة صلوات للمقبوض عليهم في جهنّم، ونحن نؤمن بالقوّة الخلاصيّة لهذه الصلوات. هذا فاجأ المتروبوليت فوعد بدرس الموضوع بشكل أوفى.
خلال هذا الحديث إلى المتروبوليت عبّرت له عن أفكاري كيف أنّ المرء يمكن أن يشطح وحتى أن يضيِّع تعاليم عقديّة مهمّة في سعيه إلى تصليح النصوص الليتورجيّة. النصوص الليتورجيّة الأرثوذكسيّة مهمّة لقابليتها في إعطاء معيار دقيق للحقيقة اللاهوتيّة، وعلى المرء، دائماً، أن يؤكّد اللاهوت بالرجوع إلى النصوص الليتورجيّة كدلائل لا بالعكس. فإن ما للإيمان (Lex credendi) ينمو مما للعبادة (Lex orandi)، والعقائد تُعتبر كشفاً إلهياً لأنّها وليدة حياة الصلاة، وتُعتلَن للكنيسة من خلال خِدَمِها الإلهيّة. من هنا أنّه إن كانت هناك فروقات في فهم عقيدة ما بين سلطة لاهوتيّة محدّدة والنصوص الليتورجيّة، فالميل عندي أن أقدّم النصوص الليتورجيّة. وإذا كان كِتابٌ مدرسي خاص باللاهوت العقدي يتضمّن آراء تختلف عن تلك التي تتوفّر في النصوص الليتورجيّة، فإنّ الكتاب المدرسي، لا النصوص الليتورجيّة، هي ما يحتاج إلى تصحيح.
وما هو غير مقبول أكثر من ذلك، بحسب رأيي، أن يُصار إلى تصليح النصوص الليتورجيّة في خطّ المعايير المعاصرة. العديد من الجماعات البروتستانتيّة ذهب بعيداً في بذل مجهودات من هذا النوع. ومنذ بعض الوقت، شرع أفرادٌ من الكنيسة الأرثوذكسيّة في الغرب يشيِّعون فكرة إعادة النظر في الخِدَم الأرثوذكسيّة بغية تقريبها من المعايير المعاصرة للصحّانية (correctness) السياسيّة. مثال ذلك أنّ المتقدّم في الكهنة سرج هاكل ( Serge Hachel)، وهو مشارك نَشِط في الحوار المسيحي اليهودي، اقترح استئصال كل النصوص الخاصة بخِدَم الأسبوع العظيم التي تطرح موضوع ذنب اليهود في موت المسيح (راجع مقالته "كيف ينسجم اللاهوت الغربي بعد أُشويت* ووجدان وخِدَم الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، في لاهوت ما بعد أُشويتز وعلاقته بلاهوت ما بعد الغولاغ**: نتائج واستخلاصات، مدينة سان بيترسبرغ، 1999).
الأنتيفونا الثانية عشرة من صلاة سَحَر الجمعة العظيمة هي ذات أهمية خاصة لدى الأب هاكل في هذا الاتجاه:
"هكذا يقول الربّ لليهود: يا شعبي، ماذا صنعت بك أو بماذا آذيتك؟ لعميانك أنرتُ ولبرصك طهّرت وللرجل الذي على السرير قوّمت. يا شعبي، ماذا فعلتُ بك وبماذا كافأتني؟ عوض المَنّ مرارة وبدل الماء خلاًّ. عوض أن تحبّني سمّرتني على الصليب. فلا أُطيق، فيما بعد، احتمالاً، سأدعو الأمم وأولئك يمجّدونني مع الآب والروح. وأنا أهبهم الحياة الأبديّة".
يدعو الأب هاكل هذا النصّ "بدعة سافرة" يجب إزالتها من الخِدَم: "ثمّة ظنّ أنّ مثل هذه الخدمة، خدمة سَحَر الجمعة العظيمة، جُمعت وفق تعليم الكنيسة، حيث إن ما بحسب العبادة هو بحسب الإيمان. لكن سلطة هذه الخدمة قائمة على مجرد أنّها كانت موجودة منذ قرون خلت. لم تؤكَّد في أي مجمع مسكوني ولا تحتاج إلى مجمع مسكوني ليُعاد النظر فيها أو، عند الضرورة، لتُستأصَل. لكن شيئاً من هذا لم يُعمل إلى الآن، ولا زلنا مستمرّين في الاشتراك في هذه الخِدَم كما في الماضي". في رعيّته، في جنوب لندن، قام الأب هاكل بـ "عملية جراحية"، كما قال، واستأصل من المنبر ما هو، بحسب زعمه، معادٍ للسامية.
لا يقف الأب هاكل عند حدّ الدعوة إلى إعادة النظر في التراث الليتورجي بل يسائل النصوص المسيحيّة الأولى التي تتكلّم على ذنب اليهود، بما في ذلك تلك التي نجدها في الأناجيل وأعمال الرسل وكتابات آباء الكنيسة، في شأن الخيانة حيال المسيح. في إنجيل يوحنّا يشير إلى أنّ لفظة "يهودي" مذكورة سبعين مرّة، وهي تحمل مضموناً سالباً في نصف الحالات، فيما يصف كتاب أعمال الرسل، تكراراً، كيف صَلب اليهود المسيح (2: 23؛ 3: 13 – 15؛ 4: 10؛ 10: 39). ويزعم الأب هاكل أنّ ما يسمّيه قراءة "سطحيّة وانتقائيّة" للكتاب المقدّس تأتي بالقارئ إلى الاستنتاج أنّ اليهود صلبوا المسيح. غير أنّ أهمية دور بيلاطس البنطي والإدارة الرومانية، في إدانة يسوع، كما يضيف، مُغَضٌّ الطرْف عنه: إذا كان أمراً كهذا حدث، فإنّ الرومان هم الذين يُؤخذون مسؤولين عن الحُكم والصَلب الواقع لا على سجين واحد بل على كل السجناء.
بالنسبة للأب هاكل، كل مقطع من العهد الجديد يذكر ذنب اليهود في موت المسيح هو نتيجة "التأثير الذي أحدثه الجدل والخلاف، خلال القرن الأوّل، في كتابة النصوص المقدّسة ونشرها". وهو يجادل أنّه "في السابق كان يُظنّ أنّ الكنيسة المسيحيّة هي إسرائيل الجديدة التي ورثت إسرائيل القديمة". مثل هذا الرأي يميِّز العديد من آباء الكنيسة أمثال غريغوريوس النيصصي ويوحنّا الذهبي الفم. ليس ممكناً تجاهلُ تعليمهم، كما يقول الأب هاكل، "ولكنْ، بكل أسف، هناك، في العديد من الأوساط الكنسيّة، مفهومٌ خاطئ مؤدّاه أنّ على المرء أن يوقِّر توقيراً عظيماً أعمال الآباء القدّيسين بالرغم من العيوب الصريحة التي تعتور بعض كتاباتهم".
الاستشهادات المبيّنة أعلاه، من مقالة الأب هاكل، أمثلة معبِّرة عن كيف أنّ تشويهاً لما هو بحسب الإيمان (lex credendi) يؤدّي إلى "تصليحات في ما هو بحسب العبادة (lex orandi). الموضوع ليس موضوع إعادة نظر في التراث الليتورجي، وحسب، بل، كذلك، في مجمل التاريخ المسيحي والتقليد العقَدي. إن الموضوع الرئيسي للأناجيل الأربعة برمّتها هو الصراع بين المسيح واليهود الذين، في نهاية المطاف، طلبوا عقوبة الموت ليسوع. بيلاطس قال عن المسيح "إنّه لم يجد فيه علّة" (يو 19: 4) وغسل يديه علامة عدم موافقته على الاتهامات الموجَّهة ضدّ يسوع، فيما صاح اليهود: "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25). لم يكن هناك صراع بين المسيح والإدارة الرومانيّة. تدخّل الرومان كان سببُه أنّه لم يكن لليهود الحقّ في أن يقتلوا أحداً. كل هذا واضح تماماً ولا حاجة لأي شرح في شأنه. هكذا، بالضبط، فهمت الكنيسة الأولى قصّة الإنجيل وهذا هو الفهم الذي تعكسه النصوص الليتورجيّة. غير أنّ القواعد المعاصرة للصحّانية correctness السياسية تطلب تفسيراً آخر.
هنا بإمكاننا أن نعاين بداءة تمييع عقيدة الكنيسة. الغرض ليس فقط تحديث خِدَم الكنيسة بما يوافق الاتجاهات المعاصرة بل الإيمان المسيحي عينه.
لست أُريد أن أُعطي الانطباع أنّي معاد للحوار اللاهوتي بين المسيحيّين واليهود. مثل هذا الحوار، في رأيي، ضروري كما هو الحال بالنسبة لغير حوارات إيمانيّة. غير أنّه من الضروري اتّباع قاعدة أساسيّة واحدة، سواء فيما خصّ الديانات المختلفة أو بين المسيحيّين: فإنّ على كل فريق أن يعبِّر، بوضوح، عن موقفه ولا يحاول أن يوفِّق ما بين موقفه وموقف الفريق الآخر. بالإضافة إلى ذلك، على كل مشترك أن يُمسك عن التعبير عن رأيه الشخصي ويَلزَم حدود موقف كنيسته أو موقف منظّمته الدينيّة، وإلاّ فإنّ الحوار يتحوّل إلى تبادل لوجهات النظر الشخصيّة. إنّ الغرض من الحوار بين الديانات أو بين المسيحيّين ليس إبراز خطوط العقيدة لدى كل فريق وكأنّها غير واضحة وذلك ابتغاء التوصّل إلى حل وسط فيما بينها، بل بذل الجهد لفهم الآخرين وقبولِهم كما هم. إنّ خِدَم كل تراث، سواءٌ الأرثوذكسي أو الكاثوليكي أو البروتستانتي أو اليهودي أو المسلم أو ما سوى ذلك، هي التعابير الأكثر أصالة عن أسسها العقدية. الحوار يجب أن يطال تفسير بعض النصوص الليتورجيّة لا العمل على تعديلها.
الخِدَم المكيَّفة، بخاصة، لتطلّعات مختلف فئات المؤمنين سبق وجودُها، من زمان، بين الفئات البروتستانتيّة في الغرب. مثلاً، هناك خِدَم نسوية feminist لها نصوصها الخاصة. وقد سنحت لي الفرصة أن أحضر واحدة من هذه الخِدَم، التي استهلّتها الجماعة بصلاة لـ "إله ساره ورفقة وراحيل". هذا تلاه حديث عن الله كأم، وكانت قسّيسة تقرأ مقتطفات من كتّاب مسيحيّين من الكنيسة الأولى، خصوصاً ترتوليانوس الذي يتكلّم عن النساء باستخفاف. الهدف من القراءة كان تبيان أنّ الكنيسة الأولى كانت غير كاملة ولذلك لا يمكن اتّخاذها معياراً للحقيقة. وانتهت الخدمة بدعوة إلى الجهاد من أجل حقوق النساء في السيامة. في هذه الحالة، ما هو بحسب العبادة (lex orandi) يتناسب تماماً وما هو بحسب الإيمان (lex credendi)، ولكن ما هو بحسب الإيمان (lex credendi) كان، بصورة واضحة وصريحة، نتيجة لجراحة خطيرة أُجريت على قلب التراث المسيحي بالذات، وهي جراحة أُجريت لا من داخل الرعيّة الكنسيّة بل من خارجها، من قِبَل عالَم دهري أولد الحركة النسائيّة.
في قناعتي أنّ التراث الأرثوذكسي في مأمن من مثل هذه المجريات لأنّه يملك عدداً كافياً من "الآليات الدفاعيّة" التي تحول دون اقتحام عناصر غريبة عنه ممارسته الليتورجيّة. يرتحل ذهني إلى تلك الآليات التي تفعّلت عندما أُدخلت آراءٌ خاطئة هرطوقيّة إلى النصوص الليتورجيّة بحجّة إعادة النظر فيها. بإمكان المرء أن يستعيد إلى الذاكرة كيف أنّ النسطوريّة بدأت باقتراح الاستعاضة عن اللفظة الذائعة في الاستعمال، التي هي "ثيوتوكوس" (والدة الإله) بلفظة أخرى هي "خريستوتوكوس" (والدة المسيح) واعتبار نسطوريوس اللفظة الأخيرة أكثر موافقة من الأولى. عندما جرى تقديم هذا الاقتراح تفعّلت إحدى آليات الدفاع في الكنيسة: الشعب الأرثوذكسي سخط واحتجّ. فيما بعد تفعّلت آلية دفاعية أخرى عندما التقى اللاهوتيون ليناقشوا المشكلة. وأخيراً التأم مجمع مسكوني. وهكذا تبيّن أنّ هرطقة خريستولوجية خطيرة قد اندسّت في الخدمة وبدت كأنّه ليس فيها ما يؤذي. هذه أدانها أحد المجامع.
الخِدَم "القانونيّة" و "غير القانونيّة"
كل ما قلناه، إلى الآن، في شأن السلطة اللاهوتيّة للنصوص الليتورجيّة له علاقة بالنصوص الموفورة في الدورة اليوميّة والأسبوعيّة والسنويّة، في كتاب الخدمة وكتاب الساعات والمعزي (كتاب الألحان الثمانية) والتريودي والبنديكستاري والميناون. ولكن، للأسف، مضمون هذه الكتب ليس دائماً في متناول المؤمن الأرثوذكسي العادي لأسباب عدّة. بالدرجة الأولى، معظم هذه الخِدَم لا يُقام في الكنائس التي ليست فيها خِدَم يوميّة. حتى في الكنائس التي فيها صلوات يوميّة، توجد مختصرة (السنكسار، مثلاً، مُسقَط، تقريباً، في كل مكان). ثانياً، النصوص الليتورجيّة تُقرأ وتُرتَّل في اللغة الكنسيّة السلافونية*** التي لا يستطيع أن يفهمها الجميع. ثالثاً، هناك العديد من الأناشيد يُرتّل، في الكنيسة، مرّة أو مرّات قليلة فقط خلال السنة، ويصعب فهمه لدى سماعه حتى على العارف باللغة السلافية القديمة. رابعاً، النصوص الليتورجيّة الأرثوذكسيّة هي، بصورة أساسيّة، أعمال شعرية ليتورجيّة بيزنطيّة منقولة إلى السلافونية منذ قرون وهي، تالياً، صعب فهمُها من غير معرفةٍ للغة الأصلية أو لقواعد الشعر البيزنطي. حتى لو كانت كل النصوص الليتورجيّة لتُتَرجَم إلى الروسيّة سوف يعسر فهمُها على كل أحد بصورة فوريّة.
الطريق الوحيدة لاكتشاف غنى الشعر الليتورجي في الكنيسة الأرثوذكسيّة هو في دراسة النصوص بشكل منظّم، تماماً كما يدرس المرء الموسيقى والرياضيات وموضوعات أخرى. وهناك عدد من الطرق للقيام بذلك. على المرء أن يذهب إلى الكنيسة كل يوم ويتابع كتب الخدمة كما تُقرأ وتُرتَّل. طريقة أخرى هي أن يَقرأ ويرتّلُ في جوق ما. والطريقة الثالثة هي أن يَقرأ الكتب الليتورجيّة في البيت. وطريقة أخرى أيضاً هي أن يدرس اليونانيّة والسلافونيّة ويقارن النص الأصلي بالترجمة السلافونيّة.
ولكنْ، هل مثل هذا الترف موفور لمعظم المسيحيّين الأرثوذكسيّين؟ طبعاً، لا. بصورة عامة، أكثر الناس يكتفون بما ينجحون في فهمه خلال الخِدَم. أو يحاولون أن يعوِّضوا عن النقص في الغذاء الروحي في الكنيسة باللجوء إلى مختلف الخِدَم والصلوات "غير القانونيّة" التي لا مكان لها في كتب الخدمة الكنسيّة المعيّنة والمشار إليها أعلاه. تتضمّن هذه الخِدَم الأخرى والصلوات الموليبنات molebens والمدائح akathists التي دخلت في ممارسة الكنيسة عبر القرنين أو الثلاثة الماضية وهي شعبية جداً بين المؤمنين. بخلاف الأناشيد البيزنطيّة التي يصعب فهمها، هذه الموليبنات والمدائح لا تتطلب جهداً فكرياً خاصاً ولا تنشئة لاهوتيّة لفهمها لأن مضمونها بسيط. إلاّ أنّ قيمتها اللاهوتيّة أدنى بكثير من النصوص الليتورجيّة القانونيّة لأنّها تنطوي، كما هو الحال في الأناشيد البروتستانتيّة والكاثوليكيّة، على الكثير من "التقوى" وعلى القليل من اللاهوت.
ما هي خدمة الموليبان moleben بالضبط؟ التيبيكون الأرثوذكسي ليس فيه مثل هذه الخدمة. عملياً، الموليبان هي خدمة السَحَر مختصرة حتى لم تعد تظهر كخدمة سَحَر، وهي خالية، بصورة شبه كاملة، من اللاهوت. إنّ الأقسام الأغنى لاهوتياً في صلاة السَحَر هي الستيخيرات والقوانين. هذه، بعامة، يُصرَف النظر عنها، تماماً، في خدمة الموليبان ما خلا اللازمة كالقول: "أيتها الفائق قدسها، والدة الإله، خلّصينا"، "يا أبانا القدّيس نيقولاوس، صلِّ إلى
الله من أجلنا"، وما سوى ذلك. في رأيي، ممارسة خدمة الموليبان شبه المعمّمة في روسيا، ليست شاهداً أميناً بالمرّة على نمو التقوى الليتورجيّة في الاتجاه الأرثوذكسي الصحيح بل في الاتجاه المعاكس. وبالإمكان القول إنّ ثمّة مسارات تشقّ طريقها في الكنيسة الروسيّة شبيهة بتلك الحاصلة في البروتستانتيّة والكثلكة. هذه جرى فيها استبدال النصوص الليتورجيّة القديمة، الغنيّة لاهوتياً، بقطع سهلة الفهم، برسم الإنشاد والترتيل. المرحلة الأخيرة من هذه السيرورة process، سيرورة الإفقار والتبسيط الليتورجي في الكنيسة الكاثوليكيّة، تميَّزت بإصلاحات الفاتيكان الثاني. في البروتستانتيّة، إصلاحات مماثلة للإصلاحات الكاثوليكيّة منذ أول عهدها. في كلا الحالين، كنوزٌ ذات مضمون لاهوتي جرت التضحية بها ابتغاء سهولة الفهم. بنتيجة ذلك كفّت الخِدَم، لدى هؤلاء وأولئك، عن أن تكون مدرسة لاهوت وتأمّل في الله وبقيت، في أفضل الأحوال، مدرسة تقوى.
كذلك انتشار خِدَم المدائح لا يضيف تفاؤلاً على الممارسة. فإنّ التيبيكون الأرثوذكسي لا يعرف غير خدمة مديح واحدة وهي المؤدّاة يوم السبت من الأسبوع الخامس من الصوم الكبير. أمثلة بارزة من هذا النوع هي مديحة يسوع الكلّي الحلاوة والقدّيس نيقولاوس. غير أنّ العديد من مدائح القدّيسين كُتبت في مستوى لاهوتي وأدبي متدنٍّ، وظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في هذه المدائح استُبدل اللاهوت بالتقوى والتأمّل في الله بـ "الكلام عن الله". هذه مشكوك في ذوقها.
في الوقت الحاضر، يتحدّث العديدون عن الحاجة إلى إصلاح الخِدَم الأرثوذكسيّة بحيث تصير أكثر قابليةً للفهم والاستساغة بين الناس. ولكن إذا كان هذا ليتحقّق عن طريق التخلّص من المزيد من النصوص القانونيّة الليتورجيّة والاستعاضة عنها بأعمال من الفنّ الشعبي، فإنّي أخشى أن يقتصر إنتاج مثل هذه "الإصلاحات" على الثمار المرّة.
إنّي لمقتنع، بعمق، أنّ الحاجة إلى "إعادة النظر" في الخِدَم هي دون الحاجة إلى انسجام الممارسة الليتورجيّة مع التيبيكون. على هذا النحو ستكون للمؤمنين إمكانية إعادة اكتشاف كنوز اللاهوت الأرثوذكسي المحتواة في النصوص الليتورجيّة القانونيّة. ولكي تكون الخِدَم أدنى إلى الأفهام بالإمكان تبسيط الترجمات السلافونية. على هذا كثر الكلام والكتابة خلال القرن التاسع عشر. وهناك العديد من النصوص الصعبة جداً يمكن قراءتها أو ترتيلها بالروسيّة، مع أنّ نقل كل شيء إلى الروسيّة، في رأيي، غير مقبول. بالإضافة إلى ذلك، بالإمكان طبع هذه النصوص الليتورجيّة السلافونية مع ترجمة روسيّة مقابلة لها ووضع ذلك في متناول المؤمنين قبل المباشرة بالخِدَم. على هذا الأساس، ما هو ضروري ليس إصلاح الخِدَم الأرثوذكسيّة بل اتخاذ تدابير تساعد في جعل غنى النصوص في متناول المؤمنين.
القدّاس الإلهي
بعض أصدقائي من غير الأرثوذكس يشتكي أنّ القدّاس الإلهي طويل جداً. يقولون: "لماذا عليكم أن تمطّوا الأفخارستيا عندما يكون بإمكانكم أن تؤدّوها في نصف ساعة؟" خبرة القدّاس كما أعرفه مختلفة تماماً: ساعتان ليستا البتة كافيتين بالنسبة لي لأنّ الوقت يمرّ بسرعة والختم يأتي سريعاً. دائماً ما يكون صعباً عليّ مغادرة الهيكل والنزول من السماء إلى الأرض، وكذا الانحدار من خبرة ما هو جليل إلى خبرة ما هو من اهتمامات هذا العالم. هناك قصّة عن كاهن في سان بيترسبرغ، في نهاية القرن التاسع عشر، كانت له غرفة فوق هيكل الكنيسة. بعد خدمة القدّاس كان يتسلّق إلى هذه الغرفة بواسطة سلّم ثمّ يرفع السلّم معه. فقط بعد ساعتين أو ثلاث ساعات كان يعود إلى الكنيسة ليتحدّث إلى الناس. رغم أنّ أكثر الكهنة، في القرن الحادي والعشرين، لا يتسنّى لهم أن يتنعّموا بمثل هذا الترف، فإنّ الأسباب الكامنة وراء رغبة هذا الكاهن في مدّ حلاوة الشركة مع الله والسكون والهدوء، من غير هذه الأرض، الهدوء الذي نفذ إلى نفسه وهو يقوم بخدمة القدّاس الإلهي، هذه الأسباب، تراثياً، قابلة للفهم تماماً.
القدّاس الإلهي "فعل مشترك"، ويتطلّب، بلا شكّ، حضور عامة المؤمنين واشتراكهم الناشط. الممارسة الأرثوذكسيّة لا قِبْلَ لها بالقداديس الخاصة التي يمكن الكهنة أن يؤدّوها وحدهم، كما هو شائع في الكنيسة الكاثوليكيّة. بنية القدّاس برمّتها، أيضاً، تأخذ في الحسبان وجود شعب، إلى جانب الكاهن، يقيم هو، أيضاً، القدّاس الإلهي. الشعب ليس جماعة متفرّجين بل مشتركين ينضمّون إلى شركة أسرار المسيح. كثر هم الذين لاحظوا، عن حقّ، (بمَن فيهم الأب الكسندر شميمان الذي أكّد بخاصة) أنّ ترتيب القدّاس الإلهي الخاص بالمؤمنين لا يحسب حساباً، بالمرّة، لوجود مؤمنين لا يساهمون القدسات. الممارسة المعاصرة التي يساهم فيها القدسات مَن أَعدّوا أنفسهم، فيما يكتفي الباقون بالوقوف وقفة المنفعل لا الفاعل، هذه الممارسة لا تنسجم وخبرة الكنيسة الأولى.
إنّي لأتّفق، تماماً، مع الذين يدعمون إحياء الممارسة الكنسيّة القديمة القاضية باشتراك عامة المؤمنين في كل قدّاس إلهي. إلى ذلك، الإرشادات الخاصة بالإعداد للمناولة المقدّسة ينبغي أن تكون واحدة سواءٌ بالنسبة لرجال الإكليروس أو بالنسبة لعامة المؤمنين. إذ يبدو أنّه غير عادل ومناقض لمعنى القدّاس الإلهي أن توضَع قواعد مختلفة للإكليروس والعامة. في القدّاس الإلهي، الجميع – أساقفة وكهنة وعامة مؤمنين – يقفون أمام الله بالكرامة عينها، أو بالأحرى بشعور واحد بعدم الاستحقاق لأنّه "لا أحد ملتصق بالرغبات والمباهج الجسديّة مستحقاً أن يدنو منك" ليساهم أسرار المسيح المقدّسة. حول هذا الجانب من مساهمة القدسات كتب القدّيس يوحنّا كاسيانوس يقول:
"ليس لنا أن نمتنع عن مساهمة الربّ لمجرد أنّنا نعتبر أنفسنا خطأة، بل علينا، بالأحرى، أن نسارع إليها، بالأكثر، لشفاء النفس ونقاوة الروح، بتواضع عميق وإيمان، بحيث إنّنا، إذ نعتبر أنفسنا غير مستحقّين لاقتبال مثل هذه النعمة، نرغب، بالأكثر، في شفاء جراحاتنا. وإلاّ لا يعود بالإمكان مساهمة القدسات ولا مرّة واحدة في السنة كما يفعل البعض... الذين ينظرون إلى الأسرار الإلهيّة باعتبار جلالها وتقديسها وفعلِها الخلاصي بحيث يظنّون أنّهم وحدهم المقدَّسون الذين يشتركون فيها بلا عيب. إنّه لأوفق اعتبار أنّ الأسرار هي التي تنقّينا وتقدّسنا بالنعمة التي تبثّها فينا. هؤلاء الناس، في الحقيقة، يتصرّفون باستكبار لا، كما يتصوّرون، بتواضع، إذ إنّهم يعتبرون أنفسهم مستحقّين لهذه الأسرار عندما يساهمونها. إنّه لأصحّ لنا أن نساهم القدسات كل يوم أحد لشفاء أدوائنا بذات تواضع القلب الذي به نؤمن ونعترف أنّه ليس في طاقتنا البتّة أن نَقْرُب الأسرار باستحقاق، من أن نظنّ أنّه بإمكاننا أن نصير مستحقّين لها بعد مرور سنة".
يفترض الاشتراك الناشط لعامة المؤمنين في القدّاس الإلهي إمكان استجابتهم لإعلانات الكاهن وسماعهم ما يُعرف بالصلوات "الصامتة". في الممارسة المعاصرة للكنيسة، هذه الصلوات، في المبدأ، يقرأها الكاهن بصمت، الأمر الذي يخلق حاجزاً إضافياً بين الكاهن والرعيّة. أكثر من ذلك أنّ هذه العادة تحرم المؤمنين المساهمة في أمور أساسية وتفوِّت عليهم المشاركة في جوهر القدّاس الإلهي. لقد سبق لي أن سمعت حججاً عديدة تُقدَّم دفاعاً عن ممارسة الصلوات "الصامتة"، لكن أياً من هذه الحجج لا يبدو لي مقنعاً. ما يُعرف بالصلوات "الصامتة" كان يُقرأ، أصلاً، بصوت مسموع من الإكليروس، مقيمي الخدمة. في ظنّي أنّه من حقّ عامة المؤمنين، في زماننا، أن تكون لهم فرصة لسماع هذه الصلوات كاملة، لا فقط خاتمتها (الإعلانات المتلوّة جهراً تفترض أن هذه الصلوات قد سبقت قراءتها، ولا توحي، في ذاتها، بمضمون هذه الصلوات: "حتى إذا ما كنا محفوظين بعزّتك"، "التي لك مما لك نقدّمها لك..."). أقلُّه صلاة الأنافورا، التي تختصر جوهر القدّاس الإلهي، يجب أن تُتلى بصوت مسموع.
إنّ الاحتفال بالقدّاس الإلهي هو عمل خلاّق يحتضن ملء الكنيسة. نصّ القدّاس هو دائماً عينُه، لكنْ كلُّ قدّاس يتيح لنا الفرصة أن نختبر السرّ في ضوء جديد يجدّد لقاءنا مع الله الحيّ.
الكثير في الاحتفال بالقدّاس الإلهي يتوقّف على الإكليروس. أحياناً كثيرة تكون العبادة في وضع "المختلَسة" من المؤمن إذا ما جرت الخدمة على عجل أو بإهمال. الاحتفال بخدمة القدّاس الإلهي، أكان إمامُها أسقفاً في كاتدرائيّته أو كاهنَ قرية، ينبغي أن يتمّ من دون سرعة وبوقار. كل الكلام ينبغي أن يُقرأ بانتباه ووضوح قدر الإمكان. من المهمّ جداً للكاهن أن يصلّي مع الشعب: عليه ألاّ يتفوّه بالكلام بصورة آلية. من غير المقبول أن نجعل القدّاس مجرّد عادة أو نتعاطاه كأنّه شيء عادي، حتى لو أدّيناه بصورة يوميّة.
المسرحانيّة والتمثيل والتصنّع في خدمة القدّاس الإلهي أمور غير مقبولة. لا يجوز للإكليروس أن يعبِّروا بشكل مفضوح عن عواطفهم أو أن يشدّوا انتباه الناس إلى أنفسهم بالطريقة التي يؤدّون فيها الخدمة. انتباه الشعب يجب أن يتركّز لا عليهم هم بل على المحتفل بالقدّاس، أي المسيح نفسه. والقول عينه يُقال، أيضاً، بالنسبة للشمامسة الذين يحوِّلون الخِدَم، في بعض الحالات، إلى مسرح إذ يستغلّون كل قابليّاتهم الصوتيّة والفنّية ليؤثّروا في الناس قدر الإمكان. إنّ دور الشمّاس هو في غاية الأهمّية إذ إنّه يدعو المؤمنين إلى الصلاة، وهو ملزَم، بالتالي، بخلق جو من الصلاة لا إفساده.
وعلى ذِكر الشموسيّة، إنّه لذات قيمة أن نلحظ ميزة خاصة في الليتورجيا الأرثوذكسيّة. ففي الإحتفال بالقدّاس الإلهي ثمّة علاقة دافئة واثقة تقام بين إمام الاحتفال الإفخارستي، أسقفاً أو كاهناً، والشمّاس. فإنّ الشمّاس، بتواتر، يخاطب الإمام بالكلمات: "صلِّ من أجلي أيّها السيّد القدّيس"، "اذكرني أيّها السيّد القدّيس"، فيجيب هذا الأخير عليها: "ليسدِّد الربّ خطاك"، "ليذكرك الربّ في ملكوته". سواء أخذ الشمّاس البركة أو سلّم الإمام الآنية الليتورجيّة، فإنّه دائماً ما يقبِّل يمينه، وقبل وبعد الفعل الليتورجي ينحني له. هذه الحركات ليست مجرد بقايا من "لياقات" الكنيسة قديماً. فإنّ لها، أيضاً، بُعداً إيقونياً، يرمز إلى علاقة الثقة والمحبّة الكاملة الحاصلة بين الشعب في ملكوت السموات والتي يجب أن تكون موفورة بين الذين يعيشون في الله. إلى ذلك، تؤكّد هذه الأفعال الطبيعة التراتبية للكنيسة التي فيها، بحسب ديونيسيوس الأريوباجي، يَعْبر "الفيضُ" الإلهي وسيل الضوء من الرتب العليا إلى الدنيا: من الملائكة إلى الأنس، ومن الكهنة إلى الشمامسة ومن الإكليروس إلى عامة المؤمنين. أخيراً، الوقار المبين، خلال الخدمة، لرجل الإكليروس، مقيم الخدمة، من حيث هو إمام الأفخارستيا، الذي يمثِّل المسيح نفسه، هو وقار شبيه بذلك المعطى للإيقونات المقدّسة، إذ إنّ الكرامة المؤدّاة للإيقونة تصعد إلى الأصل، إلى المسيح.
إنّ ترتيب الليتورجيا لا يسبغ وظائف خاصة على الكهنة المشتركين في الخدمة إذ إنّ أبرز الأفعال الليتورجيّة يودّيها إمام الخدمة والشمّاس والشعب (الممثَّل عادة بالجوق). هذا هو السبب في أنّ الكهنة يفضّلون، عادة، أن يؤدّوا خدمة القدّاس الإلهي بأنفسهم لا أن يشتركوا في الخدمة مع غيرهم من الكهنة. خلال الخدمة، ثمّة علاقة خاصة من الثقة الحميمية تقوم بين إمام الخدمة والله. صعب جداً أن يصف المرء جوهر هذه العلاقة بسبب طبيعتها الأسراريّة (sacramental) السرّانيّة (mystical)، لكنّي واثق من أنّ العديد من رجال الإكليروس سيوافقون، في شأنها، على الوصف التالي للأرشمندريت كبريانوس (Kern):
"يتمثّل جوهر الكهنوت، تماماً، في خدمة القدّاس الإلهي من الكاهن نفسه، في الاحتفال المستقل بالأفخارستيا الإلهيّة لا في اشتراك الكهنة في القدّاس الإلهي الواحد فيما بينهم. على الكاهن أن تكون له رغبة شديدة في إقامة سرّ الأفخارستيا، الأمر الذي لا يقلِّل، ولا بحال، من رغبته في مساهمة القدسات من يد أخ آخر. إن الرغبة السرّانية (mystical)، التي لا يفهمها عامة المؤمنين، والتي تقضي بتقديم الذبيحة وتغيير الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، بقوّة الروح القدس، هذه الرغبة تختلف تماماً عن المشاعر وخبرة مساهمة القدسات في قدّاس إلهي يقيمه كاهن آخر. وبالإمكان، بالضبط، قياس مستوى الوعي والميل الأفخارستي لدى كاهن بالرغبة التي تحدوه إلى القيام بالخدمة بنفسه".
يعتبر الأرشمندريت كبريانوس القدّاس الإلهي بأنّه "الأداة الأقوى للقيام بالخدمة الرعائية". ويؤكّد أنّه لا خِدَم الموليبنات (molebens) ولا البانيخيدات (panikhidas) ولا المدائح (akathists) يمكن أن تحلّ محل الخدمة الأفخارستيّة المقدّسة. إذا كانت الموليبنات (molebens) والبانيخيدات (panikhidas) ضرورية، في الحقيقة، فيجب القيام بها قبل القدّاس الإلهي لا بعده. إلاّ أنّه يبدو لي أنّ القدّاس الإلهي نفسه، من حيث هو خدمة جامعة شاملة، يتضمّن كل ما تُقام خِدَم الموليبنات والبانيخيدات من أجله، بما في ذلك ذكر الأحياء والأموات.
إذا كان بإمكاننا أن ندعو خِدَم الكنيسة الأرثوذكسيّة مدرسة لاهوت فإنّ القدّاس الإلهي هو هذه المدرسة بامتياز. فهو يعلّمنا عن أسرار ملكوت السموات لأنّه، هو نفسه، إيقونة هذا الملكوت، أكمل الإيقونات، هو الانعكاس الكامل للواقع السمائي في أحوالنا الأرضيّة، وكشفٌ لما هو تجاوزي من خلال ما هو مباشِر. في ملكوت الله كل الرموز تزول، وحده الواقع السمائي يبقى. هناك لن نساهم جسد المسيح ودمه في شكل الخبز والخمر بل بطريقة أكمل، سوف نتّحد بالمسيح نفسه، مصدر حياتنا وخلودنا. إذا كانت طريقة مساهمتنا لله ستتغيّر فإنّ جوهرها سيبقى هو إيّاه، لقاءٌ شخصي دائم مع الله، لا بين ناس معزولين أحدهم عن الآخر، بل بين ناس في شركة أحدهم مع الاخر. بهذا المعنى يصحّ القول إنّ القدّاس الإلهي المقام على الأرض إن هو سوى جزءٍ من القدّاس الإلهي الدائم المقام من الناس والملائكة في الملكوت السماوي.
ترتيل الكنيسة
واسمحوا لي ببعض الكلمات عن ترتيل الكنيسة. حديثاً زرت دير فالامو Valaam للتجلّي حيث خدمتُ السهرانة والقدّاس الإلهي في كنيسة الدير الرئيسيّة. الخِدَم، هناك، صدمتني بما فيها من روح الصلاة والانسجام والبساطة والكِبَر. الترتيل الرهباني وترتيل فالامو المستعمل في الخِدَم ترك فيّ، بخاصة، انطباعاً قويّاً. فجأة استعدتُ إلى الذاكرة كلمات القدّيس أغناطيوس (برينشانينوف) الذي زار فالامو، منذ قرن ونصف القرن، وتأثّر بترتيل الدير:
"ألحان هذا الترتيل ذات أبّهة وامتداد... وهي تصوّر أنين النفس التائبة وتنهّدها وحنينها في أرض منفاها إلى الوطن المبارَك المشوق إليه، إلى بلد البهجة الأبديّة والطيِّبات النقيّة المقدّسة... هذه الألحان تمتدّ كئيبة حزينة موحشة نظير ريح تصفر في البريّة، تتوارى، تدريجاً، كصدى بين الجُرُف والمضايق، لترعد فجأة... الطلبة البهيّة "يا ربّ ارحم" هي مثلُ ريحٍ وسط موضع قاحل حزين، تتحرّك وتنسحب. طروبارية "نرتّل لك" تنتهي بصوت يمتدّ ويُومض ويَفيض، يخفّ تدريجاً ويتوارى، من حيث لا تدري، تحت قناطر الكنيسة، تماماً كما يموت صدى تحت عقود كنيسة. وعندما يرتِّل الإخوة في صلاة الغروب "يا ربّ إليك صرخت فاستمعني" تطلع الأصوات كما من هوّة سحيقة، لتلتوي بسرعة وتهدر من هناك وتصعد إلى السماء كالبرق حاملةً معها أفكار وأشواق المصلّين. كل شيء هنا مشبع بالمعنى والعظمة، وكل شيء مُسَلٍ وخفيف يبدو، بكل بساطة، غريباً بشعاً".
ترتيل فالامو Valaamهو نوع من الترتيل الروسي القديم (Znamenny) الذي امتصّ المزايا الأساسيّة لترتيل الكنيسة البيزنطيّة. فمن المعروف أنّ الترتيل البيزنطي نُقل إلى روسيا الكييفية في زمان ياروسلاف الحكيم. "كتاب الدرجات" (stepennaya kniga, 1563) يذكر أنّه، في ذلك الحين، أتى ثلاثة مرتّلين يونانيّين إلى روسيا من القسطنطينية حاملين معهم "ترتيل الثمانية الألحان ذي العذوبة والمركّبات الثلاثة الفائقة الجمال، ليسبِّحوا ويمجِّدوا الله". لفظة "المركّبات الثلاثة" كانت موضع تفسيرات شتّى لدى الأخصائيّين في الموسيقى واللاهوتيِّين. في كل حال، لا تشير اللفظة إلى الترتيل ذي الثلاثة الأصوات بل إلى اتحاد النغمات في الترتيل. بإمكان المرء أن يفترض أن تعبير المكوِّنات الثلاثة" يشير إلى الأبعاد الثلاثة لترتيل الكنيسة قديماً: الموسيقي واللفظي والروحي التي بها يختلف الترتيل عن الغناء الدهري الذي له مكوِّنان: اللفظي والموسيقي.
حيث إنّ لكلا النمطين الموسيقيّين، الروسي (Znamenny) والبيزنطي، هذه المزايا الثلاث فكلاهما ظاهرة من الطراز عينه. كلاهما يمتاز بروحيّة مفتقدة لا فقط في العديد من أعمال الموسيقى الدهريّة، ولكنْ، أيضاً، في الترتيل الموسيقي الغربي المعاصر المؤلَّف وفقاً لمبادئ مختلفة تماماً عن تلك التي للترتيل القديم. ليس سرّاً أنّ الترتيل بأصوات متعدّدة (Italianate) المؤدّى في العديد من الكنائس لا يتّفق وروح النصوص الليتورجيّة التقليديّة. الهدف الأساسي من مثل هذه الموسيقى هو إمتاع الأذن بينما هدف الترتيل الكنسي الأصيل هو مساعدة المؤمن على الغوص في الخبرة الصلاتيّة لأسرار الإيمان المقدّس.
إنّ البنية والمزايا الموسيقيّة التي للترتيل الروسي القديم هي، أيضاً، مختلفة تماماً عن تلك التي للترتيل النمطي الغربي. الترتيل الروسي القديم (Znamenny) لم يكتبه مؤلِّفون بل، بالأحرى، جُمِعَ مما كان موجوداً من بقايا موسيقيّة قانونيّة، تماماً كما الموزاييك القديم مركّب من مجموعة من الحجارة ذات الألوان المتباينة. ليس سهلاً على الرجل العصري أن يعطي الترتيل القديم حقّ قدره. كذلك صعبٌ عليه أن "يطرح عنه كل اهتمام دنيوي" ويدخل إلى أعماق التأمّل الصلاتي. ولكنْ هذا وحده، وما يجاريه من ترتيل، هو القانوني حقّاً. وحده ينسجم، على أفضل ما يكون، وروح الخِدَم الإلهيّة الأرثوذكسيّة.
الأسقف بورفيري (أوسبنسكي)، عالم الآثار الكنسيّة المعروف، في القرن التاسع عشر، كتب ما يلي في شأن الترتيل ذي "المكوِّنات الثلاثة" السرّانية (mystical) في الكنيسة الروسيّة القديمة: "لقد نسينا سرّ الموسيقى هذا لكنّه كان معروفاً لدى أجدادنا. تاريخ كنيستنا يُظهر أنّه، في وقت من الأوقات، حمل المرتّلون اليونانيّون من القسطنطينية إلى روسيا الترتيل ذا "المكوِّنات الثلاثة"، الملائكي الطابع، أي الترتيل المؤلَّف من الثلاثة الترانيم التي توافق القوى الثلاث للنفس. يبدو أنّه قد لا يكون صعباً جداً إحياء هذا الترتيل". من الممكن، بالفعل، استعادة هذا النمط بالعودة إلى نماذج الترتيل الروسي القديم (Znamenny)، التي عبرتْ، بنجاحٍ، خبرة الزمن، كما سبق فحصل في فالامو Valaam وأديرة أخرى عديدة.
في الوقت الحاضر، آثار الترتيل الروسي القديم مستعرَفة بشكل أفضل. كما الإيقونات الروسيّة القديمة، التي سبق أن طواها النسيان، فأُصلحت، منذ عهد قريب، نسبياً، وعادت إلى بهائها الأصلي بعدما جرى تنظيفها من قرون من التراب المتراكم، كذلك الترتيل التقليدي الروسي (Znamenny) يعيده إلى الحياة، اليوم، أساتذة أكفاء في قراءة "تنويتة المسنّن". في رأيي، إعادة الثقافة الليتورجيّة الأرثوذكسيّة إلى جمالها الأصلي وعظمتها وغناها صعبٌ تصوّره من دون إحياء للترتيل الكنسي القانوني، الذي هو، بالنسبة للكنيسة الروسيّة، الترتيل القديم (Znamenny). إنّ قِطع الموسيقى الكنسيّة التي ألّفها Bortnyansky و Vedel وترنيمات الشاروبيم التي وضعها Kastalskyو Archangelsky يمكن أن تكون جميلة وتحرِّك النفس، غير أنّ موسيقاها لا تعلّمنا شيئاً لأنّها تخلق نوعاً من الخلفيّة وحسب، وهي، إلى حدّ بعيد، حياديّة فيما خصّ كلام الخدمة. من جهة أخرى، الترتيل الروسي القديم (Znamenny) له قوّة بنائيّة هائلة لأنّه انوجد، أصلاً، من أجل الصلاة وهو يحتضن الصلاة ولا قيمة له خارج نطاق الصلاة.
حتى ما يُعرَف باسم "Popevki" ، وهو بقايا الموسيقى القانونيّة، والمكوِّنات البنائيّة الأساسيّة لترتيل Znamenny ، ليس سوى انعكاس موسيقي لمختلف الحركات الصلاتيّة للنفس. إلى ذلك، كل جزء موسيقي له قاعدته اللاهوتيّة الخاصة. إذا كان قد قيل عن الإيقونات الروسيّة إنّها "لاهوت في ألوان"، فالترتيل الروسي القديم يمكن اعتباره "لاهوتاً في موسيقى". وإذا كان الترتيل الكنسي، على الطريقة الغربية، كاللوحات الروسيّة الأكاديميّة ذات الموضوعات الدينيّة، هي، في أحسن الأحوال، مدرسة تقوى، فإنّ الترتيل الروسي القديم (Znamenny)، الأَحَدي الصوت، يمكن اعتباره مدرسة صلاة ولاهوت.
"المراسم" الليتورجيّة
والآن بودّي أن أُراجع جوانب من المراسم الليتورجيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا سيما خصوصيات الخدمة الاحتفالية. يقول الناس، أحياناً، إنّ المراسم الليتورجيّة البيزنطيّة تخطّاها الزمن وتحتاج إلى تبسيط. بهاء الطقس الأرثوذكسي تجري مقابلته مع "بساطة" و "سهولة منال" الخِدَم البروتستانتيّة. يعتبر البعض أنّ طقوس الأسقف هي "طنّانة" بزيادة، وبعض الأساقفة يكتفون بما يسمّى بـ "خدمة الكاهن"، وفي ظنّهم أنّهم، بذلك، يبرهنون عن تواضعهم (urbi et orbi). أحد الأساقفة أخبرني أنّ حضور مساعدي الشمامسة في الخِدَم يلهيه عن الصلاة وأنّ نظام الخدمة الأسقفي يخلق حاجزاً ما بين المؤمنين المصلِّين والله الحيّ. وذَكَر، أيضاً، أنّ مساعدي الشمامسة، والعصيّ الأسقفيّة وغيرها من أدوات الخدمة الاحتفاليّة إن هي سوى "بهرج" يجب التخلّي عنه.
أنا لا أُوافق على هذه المقولات. إذا كانت الخِدَم تُلهي عن الصلاة، فلِمَ الذهاب إلى الكنيسة بالدرجة الأولى؟ سيكون من الأفضل أن يبقى الإنسان في بيته وأن يُقفل بابه ويصلّي إلى الله في عزلة كاملة. إذا كنتَ أسقفاً وأدّيت خِدَم الكاهن، فلِمَ تحتاج إلى سيامة أسقفيّة؟ سيكون خيراً لك أن تبقى كاهناً وتخدم وفق ترتيب الكهنة. طبعاً، هناك أوقات يكون فيها على الأسقف أن يتمِّم وظائف كهنوتيّة وأن يتمِّم الخدمة تبعاً لهذه الوظائف (مثلاً إذا كان هو الإكليريكي الوحيد في كنيسة معيّنة). ولكنْ يبدو لي أنّه لأمر مصطنع وغير مبرَّر أن يلعب أسقف دور كاهن. تواضع الأسقف لا يكون البرهان عليه في الخِدَم التي يؤمّها تبعاً لتمييزه النزوي وذوقه، بل، بالأحرى، في التصاقه، بأمانة، بتقليد الكنيسة.
في رعايا المهاجر الروسيّة في الغرب هناك ظاهرة فريدة غير معروفة لدى الذين يعيشون في البلدان التراثيّة الأرثوذكسيّة: الرغبة في مظهر الفقر. جذورها تعود إلى زمن ما يُعرف بالمهجر "الباريسي"، الذي عاش فيه المهاجرون في فقر مدقع، حين كانت الرعايا الأرثوذكسيّة تستقر في طوابق تحت الأرض، وحين كان الأساقفة يكسبون رزقهم بتكنيس الشوارع. لكن الزمن تغيَّر والأساقفة الغربيون المعاصرون كفّوا عن أن يكونوا فقراء. غير أنّ بعضهم لا زال يودّ مظهر الفقر. حين يكون هذا الميل حاصلاً في أمور الحياة اليوميّة فمن الممكن التسامح في شأنه، ولكنْ حين يؤتى به إلى الممارسة الليتورجيّة فهو لا يعود مقبولاً. طريقة حياة الأسقف يمكن أن تكون في غاية البساطة: في الحقيقة يمكن أن يكون لا ميّالاً إلى مظاهر الفقر فقط بل عائشاً، بمعنى الكلمة، في الفقر والاتضاع. ولكنْ حين يؤم الخِدَم الليتورجيّة عليه أن يظهر في كامل بهاء الكرامة الأسقفيّة.
كل أشكال التصنّع غريب عن الخِدَم الأرثوذكسيّة حيث ليس ولا يجوز أن يكون شيء ممسرَحاً وممظهراً. الخِدَم الأسقفيّة الاحتفاليّة، والمشغولة بتفصيل كبير، ليس القصد منها تسلية أو إلهاء المؤمنين عن الصلاة بل، بالعكس، جذبهم إلى السرّ الإلهي الليتورجي للأفخارستيا السماويّة. كل جوانب الخِدَم الإلهيّة رمزية وإيقونية الطابع: لا فقط الإيقونسطاس والترتيل الكنسي، ولكنْ، أيضاً، ترتيب الخِدَم عينه وما يُقال عنه مراسم. حين يغادر مساعدو الشمّاس والشمامسة والكهنة الهيكل، الواحد بعد الآخر، وهم يحملون الشموع وعصا الأسقف والذيكاري والتريكاري" فإن الأسقف يقرأ الصلاة التالية: "أيّها السيّد الربّ إلهنا، يا مَن أقام في السموات رُتَب وطغمات الملائكة ورؤساء الملائكة خدمةً لمجده، أنت اجعل دخولنا دخولاً مع الملائكة القدّيسين الذين يخدمون ويمجِّدون معنا صلاحك". مجمل الزيّاح المهيب هو إيقونةٌ، رسمٌ رمزي للزيّاح الجليل، الكثيف، والموقَّر للملائكة وهم يحتفّون بمَلِك المجد في السماء. الشيء نفسه يُمكن أن يُقال عن الدخول الكبير الذي فيه "مَلِك الملوك وربّ الأرباب يأتي ليُذبَح ويعطي نفسه طعاماً للمؤمنين، تتقدّمه طغمات الملائكة مع كل السلطات والقوّات والشاروبيمُ الكثيرو العيون والسيرافيم ذوو الستّة الأجنحة". "طغمات الملائكة" هذه هي التي يُرمَز إليها بمساعدي الشمامسة والشمامسة والكهنة الذين يدخلون الهيكل ليقرِّبوا الذبيحة غير الدمويّة.
إذا كان كل هذا مجرّد "بهرج" ينبغي غضّ الطرف عنه فلِمَ لا نتخلّص من الإيقونات وبقية الصور المقدّسة والأواني الليتورجيّة أيضاً؟ لِمَ لا نترك الجدران عارية ولا نستعمل من الأغراض إلاّ القليل القليل مما هو ضروري للصلاة؟ هذا، تماماً، هو ما فعله بعض المجموعات البروتستانتيّة، وتجري أمورهم، الآن، من دون إيقونات ومراسم، على نحو لا بأس به. كل شيء بسيط في كنائسهم تماماً كما في الكنيسة الأولى. ولكن بتبسيط المراسم والتخلّص من الصور المقدّسة والرمزية في القدّاس الإلهي، هل صاروا أدنى إلى تراث الكنيسة غير المنقسمة أم نأوا عنه بعيداً؟
وبودّي أن أضيف أنّ الخدمة الاحتفالية الأسقفيّة هي مدرسة ليتورجيّة لا تُعوَّض لمَن يتعاطونها، خصوصاً لمساعدي الشمامسة. فعليهم قبل كل خدمة أن يكووا بحرص ثياب الأسقف ويعدّوا كل الأدوات الليتورجيّة الضرورية. كلٌّ من هذه الأفعال جزء من فعل مقدّس أكبر. هذا، لمساعدي الشمّاس، نوع من البروسكوميذيا، أي إعداد القرابين، وتصرّفُهم، أثناء الخدمة، سوف يحدّد، بمقدار ليس بقليل، المناخ العام والانطباع الذي تتركه الخدمة في الشعب. مساعدو الشمّاس ليسوا، بحال، خدّام الأسقف، بل خدّام العليّ، وهذا أمر ينبغي عليهم هم وعلى الأسقف والإكليروس وعامة المؤمنين أن يتذكّروه. لا مكان لموقف خدماتي من الأساقفة كـ "أسياد". بدل ذلك ينبغي أن يُلقَّن مساعدو الشمّاس، قبل كل شيء، الموقف الوقور من الله والكنيسة والهيكل. لا يجوز أن يكون الأسقف آمراً متطلّباً، يصعب إرضاؤه، في تعامله مع مساعدي الشمّاس. عليه، بالأحرى أن يكون أباً ومعلِّماً يساعدهم بمثاله وخُلُقه والاحتفال معه على ولوج الأعماق السرّانية mystical للقدّاس الإلهي والاشتراك في أسرار ملكوت الله.
جمال الخِدَم الأرثوذكسيّة. الهيكل.
إنّ إحدى أبرز صفات الخِدَم الإلهيّة هي جمالها وبهاؤها. هذا الجمال ينعكس، أيضاً، على الترتيب الخارجي للكنيسة. هناك قصّة معروفة من "حولية السنوات" (Povest’ vremennykh let) تروي خبر سفراء الأمير فلاديمير، المرسَلين، من قِبَله، إلى شتّى البلدان ليختاروا الإيمان الصحيح للروس. هؤلاء عادوا مأخوذين بالخدمة التي حضروها في آجيا صوفيا في القسطنطينية: "لم نعِ ما إذا كنّا في السماء أم على الأرض، فإنّه ليس هناك بهاء ولا جمال كهذا على الأرض، ونحن أعجز من أن نعبِّر عما رأينا. نعلم، فقط، أنّ الله هو مع هؤلاء الناس وأنّ خِدَمهم أفضل من خِدَم البلدان الأخرى". ترى كيف كان يمكن أن يكون عليه مستقبل روسيا لو لم يزر سفراء الأمير فلاديمير كنيسة آجيا صوفيا ويتأثّروا بعظمة الكنيسة وجمال الخِدَم الأرثوذكسيّة؟
ثمّة رمزية عميقة وصِفَة، تهذِّب النفس، لبنية الكنائس الأرثوذكسيّة. فإنّها مبنيّة إما على شكل صليب وإما على شكل مستطيل (البازيليكا). هذا الأخير يرمز إلى الكنيسة كسفينة، كفُلك نوح. منه ينطلق إسرائيل الجديد إلى الملكوت السماوي. الكنائس البيزنطيّة والروسيّة مزيَّنة بالفريسكات (الإيقونات الحائطيّة) التي تصوّر مختلف الأحداث من التاريخ المقدّس. سلسلة من الفريسكات والموزاييك تمتدّ على طول الكنيسة وعرضها تشرح للمؤمنين الموضوعات الأساسيّة لتاريخ الخلاص، وتشكِّل "كتاباً مقدَّساً في صوَر". أمثلة كلاسيكيّة من ذلك هو الموزاييك البيزنطي من القرن الثالث عشر، في بلدة صقلية هي مونريال Monreale . صفّان من الموزاييك يُعايَنان في الجزء الرئيسي من كنيسة البلدة: إحداها يصوّر تاريخ العهد القديم من خَلْق العالم إلى دخول إسرائيل أرض الميعاد. فيما الصفّ الآخر يصوِّر رسوماً من العهد الجديد، من ولادة المسيح إلى صعوده. على الجدران مرسوم كل من الرسولَين بطرس وبولس وكذا مختلف الأحداث من حياة الكنيسة الأولى كما يصفها كتاب أعمال الرسل. والقسم المحوري هل هذه المنظومة قوامه إيقونات المسيح ووالدة الإله في حنية الهيكل.
الكنائس القديمة لم يكن لها إيقونسطاسات، فقط حاجز منخفض يفصل الهيكل عن بقيّة الكنيسة بحيث يبقى ما هو في الهيكل "شفّافاً". الإيقونسطاس ظهر تدريجاً: في أوّل الأمر ذا صفّ واحد، ثمّ، بعد ذلك، متعدّد الصفوف. هذا الأخير انتشر، بخاصة، في روسيا القديمة. الإيقونسطاس، اليوم، كثيراً ما يُعتبَر حائطاً بين الهيكل وبقية الكنيسة، بين الإكليروس وعامة المؤمنين. لكن الحقيقة هي أنّ الإيقونسطاس هو نافذة على عالم آخر، إذ إنّ مواكب القدّيسين يشخصون إلى المؤمنين من الإيقونات. الغرض من الإيقونسطاس ليس إقامة حاجز بل، بالأحرى، المجيء بالمؤمنين إلى الحياة السرّانية mystical التي "للكنيسة الظافرة"، والتي قدّيسوها وملائكتها يخدمون الله في الفرح الذي لا يخبو.
وفقاً للممارسة الراهنة للكنيسة الروسيّة، "الباب الملوكي" يبقى مشرّعاً فقط أثناء الخِدَم الاحتفالية وفي غيرها من المناسبات الخاصة. وعندما يؤم الخدمة كاهن فالباب الملوكي يكون مفتوحاً فقط من وقت لآخر. في ممارسة الكنيسة اليونانيّة، يبقى الباب الملوكي مفتوحاً خلال القدّاس الإلهي برمّته، وفي بعض الكنائس في اليونان لا باب ملوكي بالمرّة، فقط ستار يُرَدّ بعد الخِدَم. في هذه الحال، الممارسة اليونانيّة أكثر انسجاماً مع تقليد الكنيسة الأولى والمعنى الأساسي للقدّاس الإلهي. تماماً كما قراءة الصلوات "الصامتة"، كذلك تواري الإكليروس وراء الباب الملوكي الصلب لا يشجِّع البتّة على فهم أفضل للقدّاس الإلهي من قِبَل عامة المؤمنين. بالعكس يولّد فيهم حسّاً بالنقص في الاشتراك في ما يجري في الهيكل. الانطباع هو أنّ القدّاس الإلهي يُنظَر إليه باعتباره أمراً يحصل بين الكاهن والله وليس دورٌ فاعل فيه للشعب.
أحياناً يُنظَر إلى الهيكل وكأنّه نوع من الفسحة المغلقة، خارج حدود الكنيسة، بإمكان الإكليروس والقندلفت فيها أن يسترخوا بعيداً عن أعين عامة المؤمنين. مثل هذه النظرة، طبعاً، تناقض، تماماً، معنى الهيكل كمكان للحضرة الخاصة لله. الهيكل هو موئل غيمة الحضرة الإلهيّة (Shekhina)، ومكان مجد الله الذي سبق أن ملأ قدس الأقداس في هيكل أورشليم. كل مَن في الهيكل عليه أن يحافظ على الصمت الوقور الذي لا تقطعه إلاّ قراءة الصلوات أو إبداء الملاحظات الضروريّة للسير الموافق للخِدَم. الحديث عن أي شيء آخر في الهيكل غير مقبول.
لا أحد ولا شيء تافه ينبغي أن يحضر في الهيكل: "لا ضيوف شرف" ولا أغراض غير ضرورية. فقط الناس المعنيّون، مباشرة، بالخدمة والأدوات اللازمة للاحتفال. هذه الفسحة المقدّسة ينبغي ألاّ تتحوّل إلى مخزن للأواني الكنسيّة أو إلى مكتبة أو سخريستيا أو أي شيء آخر. لقد سبق لي أن عاينت فوضى سافرة في هياكل العديد من الكنائس الأرثوذكسيّة في الغرب حيث الكتب ولوائح الأسماء والصحون والفناجين للشرب بعد مساهمة القدسات، وكذلك بقايا الشموع والفحم للمباخر وعلب الكبريت والخِرَق وحتى ورق الحمّام مبعثرة هنا وهناك. مرّة، أثناء القدّاس الإلهي رأيت، بطرف العين، ناراً في زاوية الهيكل. فتبيّن لي أنّ الكهنة والقندلفت يحرقون هناك لوائح الذكرانيات بعد قراءتها. مثل ذلك يحدث حين يسود لاحسٌّ كامل بقداسة الكنيسة وخِدَمِها. الكنيسة المزيّنة بالإيقونات والفريسكات والهيكل النظيف المرتّب وسلوك الإكليروس بوقار، كل هذه شروط لازمة للخِدَم الإلهيّة الأرثوذكسيّة إذا ما أردناها أن تكون مدرسة لاهوت.
وأود، في خاتمة محاضرتي، أن أنقل إليكم هذه الكلمات من كتاب "تأمّلات في الكنيسة والخِدَم الأرثوذكسيّة" للقدّيس يوحنّا كرونستادت (الجزء الأوّل، سان بيترسبرغ، 1905، ص 185):
"الكنيسة وخِدَمها الإلهيّة هي تجسيد وتحقيق لكل شيء في المسيحيّة. هنا، بالكلمات والحركات، يُسرَد التدبير الكامل لخلاصنا، وكل التاريخ المقدّس وتاريخ الكنيسة، كل الصلاح والحكمة والأمانة واللاتغيّر في الله في أعماله ووعوده، والحقيقة والقداسة والقدرة الأزليّة. هنا نلقى انسجاماً بديعاً في كل شيء ومنطقاً مدهشاً في الكل وفي الأجزاء. إنّها الحكمة الإلهيّة في متناول البسطاء والقلوب المحبّة".
الأسقف هيلاريون ألفاييف
محاضرة أُلقيت في أكاديمية كييف اللاهوتيّة في 20 أيلول 2002
نقلها إلى العربية
الأرشمندريت توما (بيطار)
___________________________________________________
*** إذا كانت النصوص الليتورجيّة، في روسيا، مترجمة إلى السلافية الكنسيّة القديمة فأكثر النصوص عندنا غير مترجم إلى العربية، والمترجَم موضوع في لغة عربية ركيكة أو قديمة. أحياناً كثيرة المعاني لا تُؤدّى كما يجب (ملاحظة المترجم).