وقد اختلفَ آباءُ الكنيسة والمفسرون الأوائل في تفسير معنى كلمة "سِلاه":
فمنهم مَنْ يرى أنها مجردُ علامةٍ موسيقية تدل على تغييرٍ في الوزن الشعرى أوتغيير في الأشخاص الذين يرنمون أوتغيير في الموضوع ذاته.
أما القديس غريغوريوس النيسى فقد رفض هذا التفسيرَ موضحًا أن كلمة "سِلاه" تعنى توقفًا يكفُ خلاله المرنمون عن الترنم حيث يُسمع فقط صوتُ الآلاتِ الموسيقية وذلك لتفهُم كلامِ الوحى الإلهى [1].
ونظرًا لأهمية آراء "التقليد الآبائى" فسوف نعرض ههنا بعضًا من آراء آباء الكنيسة والمفسرين الأوائل فيما يخص تفسير كلمة "سِلاه".
فمِنْ الآباءِ الذين يؤيدون التفسير الأول نجد القديس أثناسيوس الرسولى الذى يرى أن كلمة "سِلاه" تعنى "تغييرًا يحدث في اللحن الموسيقى" أو"تغييرَ فكرٍ" أو" تغييرًا في القول (أى في كلام المزمور)"[2].
ويرى القديسُ يوحنا ذهبى الفم أن كلمة "سِلاه" كانت تُقال على تغيير إيقاعِ بقية المزمور في حالة إذا أراد المرتلُ، بعد ترتيل نصف المزمور، أن يؤدي النصفَ الآخر بطريقة أخرى (أى بلحن آخر" [3]. ويتفق مع يوحنا ذهبى الفم في هذا المعنى ثيودوريتوس أسقف كيروس الذى يرى أن كلمة "سِلاه" تعنى تغييرَ نغمةِ المزمور" [4].
أما تفسير العلامة أوريجينيس فهو كالتالى: "طبقـًا للنُّسَخِ الموجودة لدينا وطبقًا (لترجمة) سيماخوس (المشار إليها بعاليه) فإن كلمة "سِلاه" "تعنى تغييرًا يحدث في اللحن أو الإيقاع الموسيقى" [5] .
وفي الرسالة رقم 28 للقديس جيروم، المكتوبة في روما عام 384 ميلادية والموجهة إلى إحدى المدعوات ماركيلا Marcella، يقدم القديس تفسيرًا للكلمة العبرية "سِلاه"، التى يبدو أنها كانت تمثل كما لنا الآن مشكلة محيرة، قائلا: "إن البعضَ يعتقد أنها تعنى تغييرًا في الوزن الشعرى (للمزمور) والبعضَ الآخر يعتبرها توقفًا لالتقاط الأنفس والبعضَ الثالث يعتقد أن لها علاقةً بالإيقاع الموسيقى للمزامير أوبالآلات الموسيقية" [6].
أما القديس غريغوريوس النيسى فهو الوحيد الذى يرى أن كلمة "سِلاه" تدل على "هدوءٍ مفاجئٍ يحدث أثناء التسبيح حتى يتسنى للمرتل أن يستوعب ويدرك معنى كلمات الوحى الإلهى" [7]. أو طبقًا لرأى القديس نفسه "هو تعليمُ الروح القدس للنفس، ذلك التعليم الذى يتم بطريقة سرية جدًا حتى أن الإنتباه لهذا التعليم المُوحى به يستلزم قطعُ التسبيح" [8].
5- كلمة "سِلاه" ونظريات التفسير الحديثة
هناك رأيان بخصوص علاقة كلمة "سِلاه" بآلآت العزف الموسيقية؛ فالرأى الأول يرفض فكرة أن كلمة "سِلاه" تعنى "إشارة موسيقية لتوقف الآلآت الموسيقية عن العزف" على أساس أن صلاة اليهود في المجمع لم تكن تصحبها آلاتٌ موسيقيةٌ من أى نوع [10]،
أما الرأى الأخر فيرى أن الصلاة المصحوبة بالآلات الموسيقية كانت من ضمن طقوس الذبائح في هيكل أورشليم ولذا من الممكن أن تكون كلمة "سِلاه" إشارة تتعلق بالآلآت الموسيقية هناك وهذا ما يؤكده تكرار كلمة "سِلاه" ثلاث مرات في صلاة حبقوق، التى يبدو أنها كانت ضمن الصلوات الطقسية في الهيكل اليهودى ووجود كلمة "سِلاه" هنا يعنى وقفة عن التسبيح بغرض الاندماج في السجود والعبادة [11]، فإن كان المرتل يرتل كلام الروح ولكنه أثناء الترتيل يتلقى معانٍ أخرى إلهية وعندما تتملك هذه المعانى الإلهية على عقله يتوقف عن التسبيح لكيما تتضح في ذهنه هذه المعانى الإلهية وذلك من خلال السجود والعبادة.
فوجود كلمة "سِلاه" في صلاة حبقوق دفع بعض الدارسين الى الإعتقاد بأن صلاة حبقوق كانت مزمورا وليس من المستبعد أنها كانت تحتل مكانًا بين المزامير وأنها استخدمت كتسبحة في العبادة العامة سواء في المجمع أو في الهيكل اليهودى. فالإشارة اليها بعنوان :"صلاة" وُجدت كعنوان لكثير من المزامير. ووجود كلمة "سِلاه" في صلاة حبقوق يدل على مصاحبة الموسيقى لها [12].
هناك من يرى أن كلمة "سِلاه" مجرد اختصار لخمس كلمات عربية حيث كل حرف من الكلمة يشير إلى كلمةٍ ما وهذه الكلمات الخمس تشكل جملة وذلك على غرار كلمة "إخثيس" في اليونانية [13].
ويرى رأى آخر أن كلمة "سِلاه" تمثل نقطة ختام فقرة من المزمور. ولكن ماذا لو وردت كلمة "سِلاه" في نهاية المزمور؟ في هذه الحالة تكون "سِلاه" إما علامة موسيقية، أو دعوة للصلاة أو للتوقف، سواء للموسيقيين أو للمرنمين في نهاية جزءٍ من المزمور. وورود كلمة "سِلاه" في المزامير التى كانت تُستخدم في الصلاة الليتورجية اليهودية يدل على أنها كانت تمثل "إحدى العلامات الليتورجية المشار اليها بعاليه".
ويعتقد البعض أنها كانت "إشارة للمرنمين أو للعازفين لرفع درجة النغمة"، على أساس أن الكلمة "سِلاه" مشتقة من الكلمة العبرية "سَلاَل" بمعنى "يرفع".
أما عبارة "ضرب الأوتار"، فقد وردت في العهد القديم أربع مرات وهى في العبرية "هيجايون" "higgaion" وهى كلمة غامضة جاءت في (مز 9 : 16): "ضرب الأوتار. سِلاه"، مما يبدو أن ورود الكلمتين معًا يؤكد أنها "إشارة موسيقية للمغنين".
وفي (مز 92 : 3) ترد كلمة "سِلاه" مقترنة بكلمة "عَزْف" (أو"لحن" كما في الترجمة الكاثوليكية) وعلى هذا الأساس هناك من يرى أن "هيجايون" تعنى "نغمة خفيفة تُؤدى على القيثار ومن ثم تَعْزِفُ الآلاتُ باللحن الحزاينى ".
وفي مراثى إرميا (3 : 62) ترجمت "هيجايون" بمعنى "مؤامرة" وجاءت في الترجمة الكاثوليكية: "إنى أغنيةٌ لهم". ووردت في (مز 16:9) مقترنةً بكلمة "سِلاه" وتُرْجِمَتْ "ضرب الأوتار. سِلاه".
وربما اجتماع هاتين الكلمتين معًا يشير من ناحية إلى التوقف عن الترنم "سِلاه" ومن ناحية أخرى إلى مصاحبة الموسيقى وتنغيم خفيف يؤدى على القيثارة "هيجايون". فعبارة "ضرب الأوتار. سِلاه" قد تعنى مخاطبة كل الجماعة المصلية أى :" تأملوا وصلوا" [14]، كدعوة لرفع صلاة على أساس أن "سِلاه" مشتقةٌ من الكلمة الفارسية "صلاة" [15] (بنفس اللفظ والمعنى في اللغة العربية) أي: "ارفعوا أيديكم للصلاة"، حيث تدل على فترة صلاة، سرية أوعلنية تتخلل ترنيم المزامير وهذا الرأى يتفق مع الكلمة اليونانية διάψαλμα والتى تعنى: "صلاة تتخلل المزمور" أو "صلاة أثناء المزمور".
وقد تُرجمت نفس الكلمة في (مز 19 : 14) بكلمة "فِكْرُ قلبى" أو "تأمل". ووردت كعنوان للمزمور السابع هكذا: "شجوية لداود" [16].
ووردت بنفس المعنى في سفر حبقوق "صلاة لحبقوق على الشجوية" (1:3). فالتفسير السائد هو أن كلمة "سِلاه" تعنى intermission "توقفًا مؤقتًا عن التسبيح" سواء بغرض عزف منفرد من جانب الآلات الموسيقية، أو بغرض الصلاة أو التأمل. وهذا يفسر ورود كلمة "سِلاه" في المزامير القصيرة.
وهناك من يرى أنه عند الانتهاء من تلاوة مزمور أو صلاة كان هذا المزمور أو هذه الصلاة تُتْبَعُ بذكصولوجية، أوتسبيحة شكر لله (ربما: المجد لك يارب أو ما شابه ذلك) ومكان كلمة "سِلاه" هذه كان يدل على موقع هذه الذكصولوجية.
وكتاب المزامير وكتاب الصلوات يوضحان ولع اليهود بمثل هذه الذكصولوجيات. فلو أن كلمة "سِلاه" تدل على المكان الذى تُتْلَى فيه الذكصولوجية، فسيكون من السهل حينئذ فهم سبب ترجمة كلمة "سِلاه" أحيانا بكلمة "دائمًا" أو "إلى الأبد". وطبقًا لهذا الرأى يتضح أن التقليد اليهودى أبقى على استخدام كلمة "سِلاه" للإشارة إلى مكان تلاوة الذكصولوجية.
أما في التقليد المسيحى المبكر فكانت هذه الذكصولوجية تُرَتَّلُ ولا تُتْلَى ولهذا نجد أنه حيثما وردت كلمة διάψαλμα كان ذلك إشارة إلى مكان تغيير في الموسيقى.
هذا الاستنتاج يتفق مع آراء الكثير من الدارسين القائلين بأن كلمة"سِلاه" تدل على موقع صلاة، أو على نوع من التغيير في الأداء الموسيقى، أو وقفة أثناء الليتورجية.
فكلمة "سِلاه"، على الأرجح، تدل على إنتهاء مزمور أو صلاة وتلاوة الذكصولوجية في التقليد اليهودى أو ترتيلها في التقليد المسيحى المبكر"، تلك الذكصولوجيات التى كان يصحبها، كالمعتاد، تغييرات موسيقية وكذلك على رفع الصوت أثناء الذكصولوجيات التى كانت تأتى في نهاية جزء من الليتورجية" [17].
ويقول ابن العبرى نقلاً عن يعقوب الرهاوى إنه: "وَجَدَ في بعض النسخ أن بدلاً من διάψαλμα توجد ἀεί، شارحًا الكلمة على أساس تقليد يهودى قديم وفقًا له كان الشعب المصلى يرتل ذكصولوجية في نهايات أجزاء المزامير [18] مثل: "اشكروا الرب لأنه صالح ولأن إلى الأبد رحمته". فعندما كان المرتل ينتهى من تسبيح الله كان الشعب يتبع بقوله "إلى الأبد أو "أمين" وذلك على غرار عادتنا نحن الآن عندما نختم صلاتنا قائلين "الآن وكل أوان والى دهر الدهور (أمين)".
فالكلمة "سِلاه" تعتبر بقايا تقليدٍ يهودىٍ قديمٍ منذ أن كانت المزامير تُرَتَّلُ مُقَسَّمَةً إلى ثلاثة أقسام ومكان ورود كلمة "سِلاه" يدل على المكان الذى كان المرتلون يقولون فيه ذكصولوجية شكر لله وادخال هذه الكلمة إلى كثير من المزامير يعود إلى بدايات القرن الرابع ق. م [19].
فكلمة "سِلاه" – اختصارًا – هى مصطلحٌ موسيقىٌ يَنْطِقُ به قائدُ فريق التسبيح ليصمت المسبحون عن التسبيح حتى تُسْمَعَ أصواتُ الآلآت الموسيقية بقوة، أو ليصمت كل من المسبحين والعازفين أيضًا وبهذا المعنى ندرك كيف أن الترنم بالمزامير يحتاج إلى هدوء وتأمل.
دكتور سامح فاروق
المصدر
dr-samehfarouksoliman.blogspot.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] G. W. H. Lampe, A Patristic Greek Lexicon, Oxford 1961, p. 364.
[2] Expositiones in Psalmos, PG 27, 69.
[3] Prooemia in Psalmos (fragmenta) [Sp.], PG 55, 533.
[4] Interpretatio in Psalmos, PG 80, 864.
[5] Selecta in Psalmos, [Dub.] (fragmenta e catenis), MPG 12, 1072.
[6] The Nicene and Post-Nicene Fathers, 2nd Ser., vol. 6, p. 152.
[7] In inscriptiones Psalmorum, ed. J. McDonough, Gregorii Nysseni Opera, vol. 5, Leiden: Brill, 1962, p. 109.
[8] Idem.
[9] Commentaria in Psalmos, PG 23, 408.
[10] Francis L. Cohen, Ancient Musical Traditions of the Synagogue, Proceedings of the Musical Association, 19th Sess. (1892-1893), pp. 135-158.
[11] John Arthur Smith, Musical Aspects of Old Testament Canticles in Their Biblical Setting, Early Music History, vol. 17, (1998), pp. 221-264.
[12] Walter R. Betteridge, The Interpretation of the Prophecy of Habakkuk, The American Journal of Theology, vol. 7, (1903), pp. 647-661.
[13] كانت الكنيسة الأولى تتخذ من السمكة رمزاً يتعرف به المسيحيون على بعضهم البعض، لأن حروف كلمة "سمكة" باليونانية وهى "إيخثيس" (Ἰχθύς) ، تكون الحروف الأولى من عبارة:
"Ἰησοῦς Χριστὸς Θεοῦ Υἱὸς Σωτήρأي " "يسوع المسيح ابن الله المخلص"
وفي عمله الشهير "مدينة الله" يشرح القديس أغسطينوس معنى هذه العبارة هكذا قائلاً: "لأنك إذا قمت بتجميع الحروف الأولى فسوف تتكون كلمة Ἰχθύς أى "سمكة" والتى يُفهم منها أنها تشير إلى المسيح نفسه، لأنه عاش بإنسانيته في العالم بدون خطية مثل سمكة في أعماق المياه"، انظر في هذا :
Loeb Classical Library, Vol. V, Book XVIII, Chap. XXIII, De Sibylla Erythraea, p. 446.
[14] Emilie Grace Briggs, hls (Selah), The American Journal of Semitic Languages and Literatures, vol. 16, (1899), pp.1-29.
[15] B. Hemmerdinger, Selah, The Journal of Theological Studies, vol. 22, pt. 1, (1971), pp. 152-153.
[16] John Arthur Smith, Musical Aspects of Old Testament Canticles in Their Biblical Setting, Early Music History, vol. 17, (1998), pp. 221-264.
[17] Emilie Grace Briggs, hls (Selah), The American Journal of Semitic Languages and Literatures, vol. 16, (1899), pp.1-29.
[18] Norman H. Snaith, Selah, Vetus Testamentum, vol. 2, (1952), pp. 43-56.
[19] Norman H. Snaith, Selah, Vetus Testamentum, vol. 2, (1952), pp. 43-56.