لقد كان الزمن عند اليونانيين دائريًا فى علاقته بالفساد والموت، إذ كان الزمن فى نظرهم دورانًا مستمرًا وعودة أزلية [1]، لذا كانت المعادلة المسيطرة: " فساد ـ موت ـ ولادة ثانية ".
وفى هذا الإطار فإن أصحاب الديانات القديمة البدائية كان لديهم اشتياق دائم إلى عالم المثاليات، عالم الآلهة، عالم الخلود، اشتياق إلى الزمن المقدس الذى له قيمة حقيقية. لأن العالم الحاضر، فى نظرهم، هو فاسد ونجس.
يسيطر عليه الدوران أو التكرار "فساد ـ موت ـ ولادة ثانية"، لذلك فإن الإنسان البدائى كان يشتاق دائمًا لماضى الآلهة والأبطال.
إذ أن العالم الحاضر لا يملك أى إمكانية للتغيير والقداسة. والديانة عندهم بطقوسها المقدسة تقدم الإمكانية لمسيرة تجديدية بواسطة الهروب من العالم.
بالطقوس المقدسة يتحقق التشبّه بالنماذج أو الأمثلة الأصيلة، وانتقال الإنسان إلى الماضى المجيد. إذن داخل العبادة، لدى العالم الوثنى، تبطل قوة الزمن النجس والتاريخ الفاسد، وكانت العبادة، فى نظرهم، هى الرجاء الوحيد لإيجاد مخرج من الدوران اللانهائى للزمن النجس، زمن الحياة الحاضرة.
لقد دعم الفلاسفة اليونانيون هذا المعتقد، خاصة أفلاطون وأعطوا محتوى فلسفى لهذه الخبرة الدينية الأسطورية مما قاد الإنسان للاعتقاد بالمناداة برفض التاريخ وإلغاء الزمن العالمى.
ـ الزمن فى المسيحية
أما الاختلاف الجذرى للمسيحية عن هذه الأفكار بالنسبة للزمن والتاريخ يرجع إلى مفهوم الخلاص المسيحى.
فالخلاص فى المسيحية ليس هروبًا من الزمن والعالم، بل هو انتصار على الشر الموجود فى العالم. إن العالم كخليقة الله ليس هو شرًا فى حد ذاته، بل سيادة الخطية فيه هى الشر بعينه. فالعالم والتاريخ لا يُلغيان فى المسيحية بل يتجددان.
العالم والزمن هم فى المسيحية، خليقة الله الثالوث، من العدم. فالعالم والزمن لهما بداية ونهاية ومعينين أن يكونا فى حالة ملء " لما جاء ملء الزمان " (غلا4:4)، لهما مسيرة خَطِّية طولية وليست دائرية، مسيرتهما ليست بها حوادث متكررة بل فريدة وحقيقية، خلاصية "مرة واحدة".
ومركز هذه المسيرة الطولية الخَطِّية هو المسيح، الذى يعطى لكل لحظة زمنية أهمية خلاصية (2كو2:6). " الآن وقت قبول " " اليوم هو يوم خلاص". بمجيء المسيح بدأت بداية النهاية، والدخول إلى الأمور الأخروية.
يقول الأب جورج فلورفسكى [اقترب ملكوت السموات والنهاية الحاسمة ستأتى فى المجيء الثانى. الكلمة المتجسد حاضر باستمرار فى الكنيسة وفى عبادتها لكى يوّجه "جسده" نحو المستقبل، نحو الآتى ثانية بالمجد ليدين الأحياء والأموات] [2].
إن التطلع المسيحى هو دائمًا أخروى أى نحو النهاية، وموقف الكنيسة تجاه الزمن يستقى محتواه من هذه الحقيقة.
فالخليقة الجديدة لن تكون واقعًا بلا زمن، بل ستكون تجليًا للعالم الحاضر الذى خلقه الله " فى البدء"، أى فى بدء الزمن والتاريخ .
فى الكنيسة يتم تجاوز المفهوم الخطى الطولى للزمن، لأن الزمن الكنسى يصبح فيها متقاطعًا مع الزمن الأبدى، وهكذا يأخذ الزمن بعدًا أسمى، من فوق.
فنحن لا نقود أنفسنا نحو ملكوت الله، بل المسيح وملكوته قد أتيا "من فوق" إلينا، لقد اقترب منا ملكوت الله. المسيح، كمخلص، يأتى ليقابلنا فى كل لحظة من حياتنا. لذا فهو يجعل زمننا يلبس الأبدية فى كل لحظة.
لقد أتت الأبدية "فى المسيح" فى التاريخ. المسيح بمجيئه إلى العالم منح لنا القيامة والحياة (يو23:11). إن ملكوت الله يمثل معايشة الله لنا هنا فى هذه الحياة.
ـ الزمن الليتورجى
إن المفهوم الليتورجى للزمن يُعاش كحاضر مستمر وممتد نحو المستقبل، إنه زمن الخلاص. الزمن ـ فى الخبرة التعبدية الكنسية ـ لا يعمل كماضى وحاضر ومستقبل، لكن كـ"الآن" وهو "حاضر" خلاص، فالزمن والطبيعة يتجددان فى الكنيسة.
فالكنيسة تعيش تجلى الخليقة والإنسان فى المكان والزمان "الليتورجى". هذا، بالضبط، ما صوّره حدث تجلى المسيح على جبل طابور، إذ لدينا فى تجلى المسيح على جبل طابور صورة للزمن الليتورجى.
الزمن الليتورجى يُعاش كإدغام للماضى والحاضر والمستقبل، داخل حاضر الاشتراك فى مجد الله.
إن الاستخدامات المستمرة، فى العبادة لصيغة المضارع مثل: [ هذا هو اليوم الذى صنعه الرب فلنفرح ونبتهج فيه ]، تشير إلى معايشة ملء الحاضر الليتورجى لحوادث التدبير الإلهى.
والكلام هنا ليس على التكرار التاريخى لحوادث التدبير الإلهى، لأنها حدثت "مرة واحدة" فى سياق تاريخى معين ولا يتكرر. لكن " صيرورتها فى الحاضر " تعنى أن نعمة الله تمنح إمكانية للمؤمنين بأن يحيوا هذه الأحداث كما لو كانوا حاضرين وقت حدوث هذه الأحداث.
هذه الحوادث لها فاعلية ليس فقط فى المستقبل ولكن لأبرار العهد القديم " فى الماضى" بنزول المسيح إلى الجحيم، وذلك لأن المسيح هو مركز التاريخ وفى الوقت نفسه هو سيد التاريخ فى كل فتراته الزمنية.
أيضًا يُسمع الإنجيل فى الكنيسة ويُعاش بالنعمة ليس على أساس أنه كُتب لأُناس فى الماضى ولكن على أنه موجّه للذين يسمعونه فى الحاضر.
إن الزمن الليتورجى للكنيسة هو حاضر يجمع الماضى والمستقبل بالاشتراك المباشر للحضور الإلهى. وهكذا فلا تحدث فقط وحدة بين الأبعاد الثلاثة للزمن " الماضى والحاضر والمستقبل " بل الأحرى تتم وحدة المؤمنين فى خبرة الارتفاع فوق الزمن.
وهكذا أيضًا يتحول الزمن العالمى إلى زمن ليتورجى كنسى، زمن خلاص. لذلك فإن "الذكرى" هى عنصر جوهرى للإفخارستيا، أى حضور المسيح الفعلى والذى يعطى ديناميكية متفائلة للتاريخ، " ارتقاء وشفاء وخلاص ".
وهذا يظهر واضحًا فى صلاة التقدمة: [ أيها السيد الرب يسوع المسيح الشريك الذاتى وكلمة الآب غير الدنس المساوى له مع الروح القدس، أنت هو الخبز الحي الذى نزل من السماء.
سبقت أن تجعل ذاتك حملاً بلا عيب عن حياة العالم. نسألك ونطلب من صلاحك يا محب البشر اظهر وجهك على هذا الخبز وهذا الكأس، هذين اللذين وضعناهما على هذه المائدة الكهنوتية التى لك]. ثم يرشمهما: [ باركهما، قدسهما، طهرهما، وانقلهما لكى يصير هذا الخبز جسدك المقدس وهذا المزيج الذى فى هذه الكأس يصير دمك الكريم، وليكونا لنا جميعًا "ارتقاء وشفاء وخلاص" لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا لأنك أنت إلهنا الذى يليق لك المجد ...] [3].
إن الكنيسة العابدة كجسد المسيح توّحد أبعاد الزمن الثلاثة فى الزمن الحاضر " الآنى" لحضور الله داخل الكنيسة. فإن ذكرى الماضى تصبح ذكرى فى المسيح ورجاء المستقبل يصبح رجاء فى المسيح، إذ يقول الأسقف يوحنا زيزيولاس إن "لا شئ يكون ساكنًا" فى العبادة الكنسية، "بل الكل يتحرك نحو الأمام ".
إن الصلوات الليتورجية تلفت الانتباه دائمًا إلى الرجاء نحو ملء ملكوت الله فى الدهر الآتى. وهكذا تكون الكنيسة "شركة خروج" سائرة دائمًا نحو الملكوت. فالإفخارستيا "كذكرى" ليست مجرد رجوع إلى الماضى بالمعنى الأفلاطونى. لقد بَطُل الموت، والمستقبل اكتسب كيانًا جديدًا، وحياة الدهر الآتى أصبحت شركة فى النعمة: "
وأما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى " (عب1:11).
واتجاه الكنيسة ناحية الشرق أثناء الصلاة ليس فقط ذكرى للفردوس الأول ولكنه التفاتة نحو الاتجاه الذى منه ننتظر مجيء الرب ثانية فى مجده (مت27:24).
ـ الزمن في الخبرة الليتورجية للكنيسة هو العيد
الزمن في العبادة يصبح عيدًا، كذكرى ليتورجية لعطايا الله ومحبته للبشر.
العيد يحوّل الزمن إلى زمن الله ويبطل التمييز بين الزمن المقدس والزمن النجس. إنه ملء الحياة الجديدة في الكنيسة، إنه يجعلنا نعيش الحدث الخلاصى وخبرة الملكوت الآتى.
العيد هو بمثابة "تذكر" للحدث الخلاصى و"ذكر" أى إعادة حضور فعلى لهذا الحدث، وهذا لا يعنى مجرد تفكر بالذهن للحدث الخلاصى بل هو شركة اختبارية حياتية لحدث العيد. لذا يربط القديس غريغوريوس اللاهوتى "تذكر الله" بالاستنارة القلبية وحضور فعلي لنعمة القداسة الروحية في القلب [4].
العيد عند المسيحيين الأولين لم يكن مجرد "ذكرى تاريخية" بل كان دخولاً مستمرًا إلى الواقع الحقيقى الجديد الذي أوجده المسيح بموته وقيامته.
وهذا يظهر في تحديد يوم الأحد، كأول يوم لإعادة الخلق "الخليقة الجديدة"، يوم الدخول إلى الملكوت الآتى.
لكن في القرن الرابع، حدث عدم تكيف للإدراك والوعى الاسخاتولوجى لمفهوم العيد، وهذا أثر على المفهوم الحقيقى للعيد. والذي ساعد على عدم التكيف هذا ظهور ضرورات تبشيرية جديدة، والتي تتطلب ضرورة إحلال أو استبدال للأعياد الأممية لجموع المسيحيين الجدد.
وأصبح كل عيد يُحتفل به بطريقة خاصة منفصلة عن المفهوم الليتورجى للسنة الطقسية ككل أى عن وحدة الحياة الليتورجية. هكذا صار كل عيد له "هدف ذاتى" لم يعد يرتبط حقيقة بالزمن كملء له، كدهر جديد وظهور ملء الملكوت في العالم. أصبحت الأعياد تُعاش، كما يقول الأب ألكسندر شميمن كمجموعة من “break-Throughs” أى هى أحداث عاجلة لها أهمية منفصلة داخل عالم من نوع آخر، وذلك كشركة مع واقع لا يرتبط بهذا العالم [5].
وكنيستنا القبطية الوارثة الأمينة للكنيسة الأولى قد احتفظت بالفكر الأول عن العيد الذي يرتبط بوعى الكنيسة بأنها هى نفسها العيد، كتحقيق للنهاية أى للبعد الأخروى داخل العالم.
إن الوعى الأخروى القوى لا يُدمر الزمن العالمى، بل يُغيره إلى " زمن الكنيسة " إلى "زمن الخلاص". إن عبادة الكنيسة مؤسسة على النظرة اللاهوتية للزمن، بمفهوم ارتباط زمن هذا العالم مع زمن الملكوت.
لذلك فالكنيسة لا تميز بين "أيام مقدسة" و"أيام عالمية"، مثل "يوم الأحد المقدس" و"يوم العمل الغير مقدس"، بل على العكس تؤمن بأن "يوم الأحد" يقدس كل أيام الأسبوع، فكل يوم هو عيد في الكنيسة.
وهذا يعنى خضوعًا مستمرًا من الزمن العالمى لزمن الملكوت. فكما قال بولس الرسول " إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل صار جديدًا" (2كو17:5).
العيد أصبح دعوة للروحانية والنعمة والفرح المستمر: " وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب" (أع46:2).
إن الإفخارستيا هى قمة العيد الكنسى، هى الأساس والإطار الذي نرى فيه العيد، فهى تحول كل يوم إلى عيد. وهذا يؤدى بنا إلى الحديث عن أعياد القديسين
أعياد القديسين
أعياد القديسين اليومية تساهم في تجلى الزمن العالمى وتحويله إلى زمن مقدس، مثالاً للدهر الآتى. وكل يوم يصير عيد "ذكرى" للقديسين وللأحداث الخلاصية.
إنها معايشة مستمرة لحضور الله في العالم وإمكانية تقديس الإنسان. لقد نُظمت الأعياد الكنسية في القرن الرابع كما يقول ديكس [6] Dix.
لكن الأعياد الكنسية لم تبتدع في القرن الرابع، بل منذ القرن الأول حُددت الأعياد المسيحية بتأثير قوى من تقويم الأعياد اليهودية.
والأعياد الكبيرة الأولى للكنيسة لم توضع فقط لذكرى حوادث تاريخية مقدسة ولكن أيضًا بدرجة كبيرة كتعبير عن حقائق الإيمان العظيمة واعتراف بها.
إن محتوى كل عيد هو في التحليل الأخير محتوى لاهوتى يشمل "الخريستولوجيا" أى التعليم عن المسيح، و"الاكلسيولوجيا" أى التعليم عن الكنيسة، و"الاسخاتولوجى" أى الكلام عن الأمور المنتظرة التي ستحدث في النهاية.
وهذا المحتوى نستطيع أن نلاحظه بوضوح في الترتيب الطقسى لكل عيد، وأيضًا في نصوص التسابيح التي تحتوى على عناصر غنية عقيدية توضح المعنى اللاهوتى للعيد. لذلك اُعتبرت هذه النصوص مصادر للتقليد العقيدى للكنيسة.
د.جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث بالمركز الارثوذوكسى
للدراسات الابائية بالقاهرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] O. Cullmann, Christ and Time, Philadelphia 1964 (الترجمة اليونانية، أثينا1980).
[2] G. Florovsky, Eschatology in the Patristic Age, SPII (1957), 235-250.
[3] الخولاجى المقدس
[4] P.G. 36, 345 B.
[5] A. schmmann 6. 202
[6] G. Dix, The shape of the liturgy. 333-347