وفيما يتعلق بالطقوس في الكنيسة بالنسبة للعالم والتاريخ، لأن الكنيسة بحد وجودها متجهة، كما رأينا، إلى العالم والتاريخ، حاملة إليهما خلاص الله. ولا بد أن يكون للطقوس في هذا الصدد دور مميز سنحاول أن نتبينه لأننا لن ننتمي إلى الكنيسة حقيقة ما لم نتبن اتجاهها هذا نحو المسكونة.
ولكن هذا القسم الأخير فحواه وارد في ما تقدم صراحة أو ضمناً ولذلك لن أسهب فيه:
آ- يجب أن نقتنع أولاً بأن الطقوس لا يتوقف فعلها عندنا بل نحن فيها نأخذ لكي نعطي.
لأن خلاص الله ليس لنا وحسب بل هو يتعدانا ليعبر عن طريقنا إلى الكون كله. نعم إن الطقوس ليست لنا بل نحن فيها خدام، كهان – (كهنوت ملوكي) – نكهن من أجل العالم. خلاص الله من أجل الكون يمر بالإنسان ضرورة، بآدم الأول بدءاً ثم بآدم الثاني المسيح وجميع من يؤمنون به.
ولذلك تشمل صلاتنا كل إنسان وكل شيء. ولذلك علينا في صلاتنا أن نحسب دائماً حساب العالم. منذ وقوفنا للصلاة الطقسية، منذ البداية، يجب أن نرصد للعالم حصته ومكانه فيها وإلا كانت صلاتنا ناقصة مبتورة..
ب- ولكن ماذا يحتاج العالم أن نعطيه في طقوسنا؟
إنه يحتاج أولاً إلى تطهير ونعمة. إلى تغيير كيان. ونحن بالطقوس نغرف من قداسة المسيح لنبث هذه القداسة في العالم. بالطقوس الروح يعمل في الكون ليحفظه ويقدسه رغم كل شرور الناس. وإلا كيف كان يمكن أن يستمر الكون في تفاقم هذه الشرور؟
بل الكنيسة بالطقوس تفعل تدريجياً في التاريخ لتحل محل الفساد نعمة وتهيئ العالم للتجلي الأخير. بهذا المعنى (أنتم نور العالم، أنتم ملح الأرض).. بكم تتخذ الأرض طعماً ومعنى. بالطقوس نغلب الخطيئة التي في العالم، أي روح الفوضى والعدم الذي فيه. ولقد كتب الفيلسوف أريستيد في القرن الثاني:
(ليس هناك أي شك عندي بأن العالم باق بسبب شفاعة المسيحيين: إنهم يكرسون حياتهم لمثل هذه الصلاة).
ولذلك نصلي من أجل الحكام والمدن والقرى واعتدال الأهوية وسلامة العالم.. ونبارك البيوت والحقول والآبار.. ونقيم القداس الإلهي..
ج- ثم يحتاج العالم ثانياً – بعد نعمة الحفظ والتطهير- إلى سلام واتفاق ووحدة، ولكن إلى وحدة تفوق الوحدة السياسية أو الاقتصادية، الاشتراكية والحضارية، إلى وحدته الحقيقية، وحدة الجسد الواحد.
وهذه الوحدة كيف نحققها أو أين نتعلمها ونمارسها وننميها إلا في الطقوس، في الاجتماع باسمه، حيث هو في الوسط، وحيث كلمته وجسده يخلقان بيننا وحدة ؟ إن من يعيش الطقوس وصلاة الجماعة حقاً (الصلاة مع الآخرين ومن أجل الآخرين) يختبر بنفسه كيف تصعد الصلاة الواحدة، وكيف نلتحم الواحد بالآخر ونتطابق، كيف (نوجد) معاً (وليس أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته)..
الناس عادة يصلون من أجل ذواتهم أولاً (من أجل أولادهم وصحتهم وتوفيقهم) ثم من أجل الآخرين (أحياناً) وأخيراً من أجل مجد الله (إذا حدث ذلك). أما الصلاة الطقسية فتقام لمجد الله أولاً ثم من أجل الجميع ومن أجلنا نحن ضمن الجماعة كلها ومعها.. إنها الصلاة الكاملة.
ومن هنا، من الينبوع، تأتي روح الشركة الحقيقية والوحدة والمحبة. الطقوس مدرسة لروح المحبة والتضحية ولذلك فالطريقة الفضلى لاتحاد الناس، ولاتحاد المسيحيين في هذه الأيام، ما دامت المشكلة قائمة، هي أن يصلوا معاً نحو الإله الواحد.أن يصلوا معاً بإخلاص ولكن بدون تشويش. لأن الاشتراك بتشويش – كالمشاركة في القدسات قبل الأوان وعلى غير أساس وبصرف النظر عن فروقات النظام والإيمان – يخل بحد ذاته بالوحدة التي ننشد.
الطقوس وسيلة من أجل الاتحاد، ولكنها أيضاً تعبير لوحدة الكنيسة والإيمان وعلامة لها. ولذلك لا يمكن استخدامها كوسيلة دون تحفظ وبلا ترتيب. غير أن الله يعمل في الطقوس في كل كنيسة، وإن تعمق كل جماعة في عيش طقوسها حول المسيح يؤدي لا محالة (مع الوسائل الأخرى) إلى اتحاد الجميع بالمسيح.
د- ويحتاج العالم أخيراً - مع تجديد الكيان ومع الوحدة – إلى روح التسامي والتهليل.
لأن الناس اليوم يغرقون أما في الرجوع إلى الذات والتحليل الذاتي المفرط، المعقد والعقيم، أو في الهروب من الذات والانفلات غير المحدود، نحو (حرية) مزعومة، هي بلا جوهر ولا هدف وبالتالي بلا وجود.
أما الموقف الصحيح الذي لا ينغلق فيه المرء على ذاته ولا يفلت ويضيع، أليس هو في الطقوس حيث يلقى الإنسان كيانه ومصيره الأخير في التسامي فوق ذاته والانفتاح الطوعي ببساطة لحياة الله المحيي والفرح بهذه الحياة والشكر والتهليل؟ والحقيقة إننا في الصلاة الطقسية المعاشة، وإذاً الكاملة والمستجابة، نشعر بأننا نتحقق وننال كياناً، وذلك شخصياً في أصالة الحياة (وليس بالفكر فقط)، إذ نحس بكل كياننا بحضرة الله حضرة سرية لا توصف تحوطنا فنتحرك فيها ونوجد.
ألم يكن القديس سيرافيم ساروفسكي (في القرن التاسع عشر) يسمي هذه التلة جبل الزيتون وذاك المرتفع الجلجلة وهذه المغارة القبر ويقول لكل من يزوره (يا فرحي، أنت فرحي، المسيح قام!)..
وأوليس تحقيق الإنسان بالنتيجة في تلك الصلة الشخصية مع الخالق، في ذلك اللقاء الحي، المحيي والمتهلل، شاملاً جميع الناس وصابغاً الكون كله بنور القيامة؟..
ختاما ..
وهكذا نأتي إلى الختامة ، والخلاصة أن الكنيسة حيث خلاص الله يعمل، ولا يزال يعمل، فينا وفي العالم، نحققها إلى حد بعيد جداً بالطقوس.
الطقوس تحقق الكنيسة على الدوام في العالم. في كل مرة نقيم الطقوس نحقق الكنيسة، ولا نتوقف عن تحقيقها. الطقوس (حركة) الكنيسة في العالم.
من أجل فهم الليتورجيا وعيشها
رهبنة دير مار جرجس الحرف