5- التعليم عن المسيح Christology- Χριστολογία
Iـ مقدَّمة عامة
قبل أن نبدأ في بحث هذا الموضوع الهام، يُفضَّل ايضاح بعض المصطلحات اليونانية لأنها ستساعدنا في فهم اعمق لتعاليم كنيستنا الأرثوذكسية لنعيش ونختبر "سرَّ محبة الله للبشر" فنشهد ونخبر عن "سبب الرجاء الذي فينّا"
1ـ ثيولوجي: Theology =θεολογία أي الكلام المختص بالله:
هذا المصطلح اليوناني مرَكَّب من كلمتين هما "θεός" بمعني "الله" وكلمة "λόγος" بمعني "علم" أو "كلام عن" وعليه يصبح معني المصطلح هو "العلم الخاص بالله" أو "الكلام المختص بالله".
ويشتق من هذا المصطلح اسم فاعل هو Theologos θεολόγος أي الشخص الذي يُعلّم بأمور مختصه بالله أو ما نطلق عليه باللغة العربية "لاهوتي". أما المصطلح باللغة الإنجليزية Theology فهو مأخوذ من المصطلح اليوناني Θεολογία بعد نقل حروفه اليونانية إلي الحروف المقابلة في اللغة الإنجليزية أو ما يعرف بالترجمة الحرفية Transletiration.
وهنا تجدر الإشارة إلي أنه من الأصوَّب في اللغة العربية أن يُطلَق علي كل عطاء أب من أباء الكنيسة مثل القديس أثناسيوس الرسولي مثلا، في حديثه عن الأمور العقيدية, نطلق علي هذا العطاء تعبير "تعاليم القديس أثناسيوس اللاهوتية" بدلا من تعبير "لاهوت القديس أثناسيوس" فاللغة العربية لا تفرَّق مثلا بين تعبيّري "لاهوت المسيح" بمعني الوهيته، "لاهوت ق. أثناسيوس" بمعني تعاليمه الخاصة بالمسيح ـ أما في اللغة الإنجليزية فالفرق واضح حيث إن التعبير الأول هو "Divinty of Christ" أما الثاني فهو"Theology of st. Athanasius"
واللغة اليونانية تستخدم مصطلح
"θεοτητα τοῡ Χριστοῡ للأول
"θεόλογία τοῡ Αθανασιοῡ" للثاني. فالفرق واضح إذن في اللغات الاجنبية.
2ـ التعليم عن المسيح: Christology= χριστολογία
بناء علي ما سبق نستطيع أن نفهم أن هذا المصطلح اليوناني مركَّب من كلمتين الأولي Χρίστος =Christ بمعني "المسيح" والثانية λόγος = logos بمعني "علم الكلام عن" فيكون المعني العام للمصطلح هو "التعليم عن المسيح" أو "علم الكلام عن المسيح"
3ـ جوهر ούσία (أوسيا) Essence
الأوسيا يشير إلي ما يمكن أن يسمي كينونه (is – ness) أو جوهر الشيء (بصورة عامة ومجردَّه). وبالرغم من ذلك فالأوسيا ليس له وجود محدد (concrete existence)لأن كل شيء له وجود محدَّد هو شيء خاص (particular).
4ـ طبيعة (φὺσις) فيزيس: Nature
يدَّل علي الخصائص الجوهرية التي تمَّيز شيء ما يكون هذا الشيء وليس أي شيء آخر.
5ـ اقنوم (ὑπόστασις) هيبوستاسيس Hypostasis
كلمة اقنوم كلمة سريانية, وتدَّل علي ما هو "خاص" في مقابل "الاوسيا" الذي يعني ما هو عام" فمثلا كلمة "إنسان" يقصد بها كل ما ينتمي إلي الجنس البشري, لكن عندما تقول إن شخص معيَّن مثل بطرس هو إنسان فالمقصود أنه ينتمي إلي الاوسيا (الجنس البشري كله) وبطرس له هيبوستاسيس معيَّن لأنه أستقبل وجوده المحدد بصورة فريدة وخاصة.
6ـ بروسبون (Πρόσωπον) شخص Person
والمصطلح الإنجليزي Person مأخوذ عن الكلمة اللاتينية Persona.
ومصطلح بروسبون في اصله اللغوي يعني "ينظر نحو" وقد استخدم قبل المسيحية ليشير إلي القناع الذي يلبسه الممثل ليمثل شخصيَّة ما ثم أصبح يشير إلي الدور الذي يقوم به الممثل "المشخصاتي" ليعبُّر عن الشخصيَّة التي يمثلها.
يَردْ هذا المصطلح بمعاني متعدَّدة في الكتاب المقدس لكنها كلها بمدلول ..... "الوجه" أو "الحضور" وحينما جاء بمعني "شخص" (2كو1:11) فكان يعني "الذي ينظر إلي الآخر" أو الذي "يتجه نحو الآخر" ومن الجدير بالذكر أنه قبل هرطقة سابليوس كان آباء الكنيسة يستخدمون هذا المصطلح للتعبير عن أقانيم الثالوث, وعندما استخدم سابليوس هذا المصطلح بمعني "الحالة" وأعتبر أن الثالوث هو ثلاث حالات (بروسبون) لأقنوم واحد. اضطر الآباء إلي الابتعاد عن استخدام هذا المصطلح للتعبير عن الاقانيم الثلاثة واستخدموا مصطلح "هيبوستاسيس" بدلا منه.
II ـ عقيدة ”الخريستولوجي”
يخبرنا القديس متى في إنجيله (13:16) عن ذلك الحوار الذي أجراه المسيح له المجد مع تلاميذه عندما جاء إلي قيصرية فيلبس حين بادرهم بالسؤال "مَنْ يقول الناس اني أنا إبن الإنسان"؟.
والواقع أنه من ذلك الحين وإلي الآن فإن هذا السؤال الحيوي يفرض نفسه بين الحين والآخر علي فكر الكنيسة وتعاليمها فيما يخص السيد المسيح أو ما يعرف بـ "الخريستولوجي".
فلقد كان علي التلاميذ أن يجيبوا علي سؤال الربّ هذا وبالتالي فقد كان علي الكنيسة من بعدهم أن تعطي جوابًا علي هذا السؤال عينه في كل عصر وكل مكان موضحَّة وبشكل قاطع عقيدتها وتعاليمها الخاصة بشخص المسيح.
وخلال القرون الأربعة الأولي للمسيحية ترَّدد السؤال بعينه عدَّة مرَّات وأُعطيت فيه أجابات كثيرة، تسبب غير الأرثوذكسية منها في ظهور الهرطقات المختلفة والتي أدت في النهاية إلي انقسامات حادة في الكنيسة.
وسنحاول استعراض المعتقدات الخاطئة والخاصة بشخص المسيح والتي كانت نتيجة طبيعية وحتمية لمعتقدين خاطئين ومتباينين.
1ـ المعتقد الأول
وقد رأي أتباعه أن في شخص يسوع إنسانًا فقط هو إبن مريم ويوسف النجار منكرين بذلك ألوهيته. فالمسيح إذن في نظرهم هو الذي رَفَعَه الله بسبب تقواه إلي درجة الكرامة. وقد عرف أتباع هذا المعتقد في التاريخ بإسم الابيونيين.
2ـ المعتقد الثاني
وقد علّم معتنقوه بأن المسيح لم يتجسَّد بصورة حقيقية وذلك لأن جسده الذي كان يظهر به أمام الناس لم يكن الاّ خيالاً لأن الجسد مادة وحسب إعتقادهم فإن كل مادة هي شر.
ومن هذين المعتقدين خرجت تعاليم ماركيون ثم تعاليم الانتحاليون وتعاليم سابيليوس وبولس السميساطي وأريوس وابوليناريوس ونسطور وأوطاخي...الخ
هذا ولقد فتحت تعاليم كل هؤلاء غير الأرثوذكسية الطريق إلي ظهور نفس هذه الهرطقات وإن كانت قد اتخذت اسما جديدًا في القرن السابع الميلادي.
لقد كان علي آباء الكنيسة أن يعطوا جوابًا واضحًا ومقنعًا لكل التساؤلات الخاصة بعقيدة الخريستولوجي. وفي إجابتهم هذه كانوا يسلّمون الكنيسة أولا عقيدة الثالوث الأقدس, وذلك لأن عقيدة الخريستولوجي مرتبطة إرتباطًا وثيقًا بعقيدة الثالوث فالمسيح هو الابن, الأقنوم الثاني وبتجسَّده أُستعلَن لنا الآب وأعطانا شركة الروح القدس.
ولذا فلقد كان علي الكنيسة التي نشأت في أحضان الديانة اليهودية والفلسفة اليونانية, أن تُثبَّت أولاً مفهوم الثالوث, الجوهر الواحد والثلاثة أقانيم الآب والإبن والروح القدس في نفوس المؤمنين لكي يواجهوا الفكر اليهودي بالإله الواحد المطلق والفكر اليوناني الفلسفي والوثني الذي يؤمن بتعدَّد الإلهة.
ولهذا نجد أن كتابات الآباء في القرون الأولي, وإن كانت قد تناولت تعاليم الكنيسة المختصَّة بالمسيح "خريستولوجي" الاّ أن هذه التعاليم ركزَّت علي الوهية الإبن [1] كأحد أقانيم الثالوث الأقدس وشددت علي وحدة الجوهر الإلهي.
لقد كان الشغل الشاغل في تلك الفترة أن يعطوا إجابة علي مَنْ هو يسوع المسيح؟ هل هو إنسان أم إله؟ وما هي علاقته باللوغوس؟ وما هو اللوغوس؟ وهل من علاقه بين اللوغوس ويسوع الناصري؟ وهل اللوغوس هو إبن الله منذ الأزل أم خُلِقَ مع الخليقة أو خُلِقَ قبلها؟ وما هي علاقة اللوغوس بالله الآب؟ وهل هو من جوهر الآب أم من جوهر آخر؟ وهل هذا اللوغوس قد حلَّ في جسد بدون نفس بشرية أم في إنسان يدعي يسوع الناصري؟ .
غير أن الكنيسة في القرنين الرابع والخامس قد إنشغلت بالمسألة "الخريستولوجية" مرَّة أخري بعد إن طُرحت عليها القضَّية لا بسبب التنازع علي مفهوم الكلمة المتجسَّد وعلاقته بالآب أو علي حقيقة ناسوت المسيح, بل لأن النزاع العقائدي الخريستولوجي بدأ يدور حول موضوع كيفَّية وطريقة إتحاد الطبيعتين في يسوع المسيح.
وبمعني آخر كانت الأسئلة المطروحة علي الكنيسة تخص شخص المسيح في ذاته وليس في علاقته بأقانيم الثالوث الآب والروح القدس.
كانت التساؤلات تتركز في الآتي: ـ
+ كيف يمكن أن يكون إبن الله وإبن الإنسان في آن واحد؟
+ كيف تمَّت عملية الإتحاد؟
+ هل يوجد طبيعتان أم طبيعة واحدة في شخص يسوع المسيح؟
+ هل نُطِلق علي السيدة العذراء لقب أم الله أم لقب أم المسيح؟
+ هل لقب أم الله هو متفق مع تعاليم الكتاب المقدس؟
وقد حاولت الكنيسة أن تعطي أجابات واضحة علي كل هذه الأسئلة, بل وشكلَّت هذه الأجابات عقيدتها الخريستولوجية.
عقيدة ”الخريستولوجي” في النصوص الليتورجية.
سنتناول الحديث عن هذا الموضوع من خلال دراستنا لنص القداس الإلهي للقديس اغريغوريوس الناطق بالإلهيات.
فمن المعروف أن هذا النص هو أحد نصوص القداسَّات الثلاث المستخدمة في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية بجانب نص القديس باسيليوس والقديس كيرلس.
والملاحظ أنه بينما تتوجه الصلوات في كل من القداس الباسيلي والكيرلسي, لأقنوم الآب, فإن الصلوات في القداس الغريغوري تتوجّه كلها للاقنوم الثاني من أقانيم الثالوث القدوس أي لاقنوم الإبن.
وهذا يفسر لنا تفضيل استخدام هذا النص في الاعياد السيدية (أي الخاصة بالمسيح له المجد) [2] . وفي كل من عيدي الميلاد والغطاس وعيد القيامة المجيدة.
ومن السهل علي المرء أن يتبّينَّ تعاليم القديس غريغوريوس الخريستولوجية، مصاغه في تعبيرات لاهوتية وعقائدية واضحة نجدها أيضًا في باقي كتاباته اللاهوتية والعقيدية والتي واجهه بها التعاليم الخاطئة التي نادي بها الهراطقة في عصره.
ومن ناحية أخري فقد عمل الصراع ضد الهراطقة علي تطوَّر النصوص الليتورجية, كما أدي الأمر نفسه إلي استخدام نص قانون الإيمان والمجاهرة به علانية في القداس الإلهي, وأيضًا إلي وضع نصوص الذكصولوجيات وما فيها من صياغات عقيدية, لمواجهة كل الأفكار الخاطئة للهراطقة.
ويمكن الإشارة إلي أهم التعاليم الخريستولوجية التي عبَّر عنها ق. غريغوريوس في نص القداس كالآتي :
1ـ الوهية الإبن ومساواته للآب في الجوهر.
2ـ العمل الخلاصي للإبن المتجسَّد.
3ـ طريقة إتحاد الطبيعتين في شخص المسيح الواحد.
وسوف نتناول كل نقطة بالتفصيل: ـ
1ـ الوهية الإبن ومساواته للآب في الجوهر
لقد كان ق. غريغوريوس أمينًا في حفاظه علي ما قد قرره الآباء في مجمع نيقية سنة 325 م بخصوص الوهية الإبن المتجسَّد ومساواته للآب في الجوهر.
فهو يؤمن ويعلّم أن الإبن وكلمة الله, بسبب أنه واحد مع الآب في الجوهر فهو مثله مثل الآب أزليّ, وخالق, وإله حق, ويُعبَّر عن هذا الإيمان من جهة الإبن في صلاة الصلح قائلاً: " أيها الكائن الذي كان الدائم إلي الإبن, الذاتي والمساوي [3] والجليس [4] "[5].
وفي مقابل تعاليم الهراطقة يقدَّم ق. غريغوريوس تعاليمه الخريستولوجية المبنّية علي الكتاب المقدس وعلي مَنْ سبقه من آباء الكنيسة وعلي وجه الأخص ق. أثناسيوس, فيعتمد علي ما جاء في إنجيل يوحنا بخصوص الإبن كلمة الله أن "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" ويصف الإبن بأنه "الخالق مع الآب" [6] , الذي "من أجل الصلاح وحده مما لم يكن كونت الإنسان".
وبتعبير "الخالق مع الآب" يريد ق. غريغوريوس أن يشدد علي أن الإبن ليس هو مثل باقي المخلوقات, فهو خالق وليس مخلوق. أيضًا يريد أن يثبت مرَّة أخري أن الإبن ليس غريبًا عن الآب فهو مولود من جوهر الآب.
وفي مواضع أخرى من القداس الغريغوري يوضح ق. غريغوريوس وحده الإبن مع الآب في الجوهر, وذلك في تعبيرات معبّرة واضحة فيقول إن الإبن هو "غير المبتدئ, الأبدي", "غير المحوي" ...الخ, وبهذه التعبيرات يواجهه ق. غريغوريوس مَنْ ينكرون أن الإبن هو الله حسب الطبيعة. والإبن حسب إيمان ق. غريغوريوس هو الله, هو أيضًا قوَّة الله الآب ولهذا فهو يُعبّر عن هذا الإيمان في صلاة للإبن قائلاً: "أيها المسيح الهنا القوة المخوفة غير المفهومة [7] التي لله الآب" [8]. وفي استعاره موفقة من رسائل بولس الرسول يخاطب الإبن في نفس الطلبة قائلاً: "أنت نار آكلة كإله"[9].
فالإبن الذي يُخاطبه ق. غريغوريوس في صلاة القداس يجب أن يُقدَّم له كونه الإله الحق, كل سجود وعبادة ومجد: "مستحق بالحقيقة وعادل أن نسبحك ونباركك ونخدمك ونسجد لك ونمجدَّك أيها الواحد وحده الحقيقي, الله محب البشر الذي لا ينطق به. غير المرئي غير المحوي. غير المبتدئ الأبدي غير الزمني الذي لا يحد غير المفحوص, غير المستحيل, خالق الكل مخلّص الجميع" [10].
والإبن, بصفته هو الله والمولود من الله والواحد معه في الجوهر, هو إله حقيقي لهذا يصرخ له ق. غريغوريوس قائلاً: "أيها الكائن السيد الرّب, الإله الحق من الإله الحق" [11]. ومن الجدير بالذكر أن هذه التعبيرات هي نفسها التي وردت من قبل في قانون إيمان مجمع نيقية فيما يختص بالوهيةالإبن, في مواجهته لتعليم آريوس الخاطئة.
وحسب تعاليم ق. غريغوريوس الخريستولوجية والتي صاغها وعبّر عنها في نص الليتورجية فإن تجسَّد الله الكلمة لا يعني تغيرّ في ازليتهَّ أو أن الوهيته قد صارت محدودة. فحقيقة أن الكلمة قد صار جسدًا بسبب سرَّ التدبير الإلهي, لا يعني أن طبيعته قد تبدّلت, لكن كلمة الله في تجسده قد أتخذ جسدًا وصار في شكل العبد مع بقاء طبيعته الإلهية كما هي. ويضع ق. غريغوريوس هذه الحقيقة الإيمانية في صلاة القداس قائلاً: "أنت الكائن في كل زمان أتيت إلينا علي الأرض. أتيت إلي بطن العدراء, أيها الغير المحوي إذ أنت الإله لم تضمر اختطاف أن تكون مساويا لله, لكن وضعت ذاتك واخذت شكل العبد"[12].
2ـ العمل الخلاصي للإبن المتجسد
يوجَّه ق. غريغوريوس انتباه المؤمنين إلي حقيقة العمل الخلاصي الذي أتمه الله الكلمة والإبن الوحيد بتجسده وموته علي الصليب وقيامته من أجلنا.
فَخلقْ الإنسان من العدم واعاده خلقته أي تجديده بواسطة تجسَّد الإبن الوحيد وحده هو عمل قد تَّم بسبب صلاح الله ومحبته للبشر وتعطفه. ففي بداية القداس الإلهي يصف ق. غريغوريوس مسيرة الإنسان وطريقة تدخل كلمة الله في مأساة البشرية وتبعات العمل الخلاصي العجيب الذي تممه الإبن. إذ كان قد سبق أن خلقها منذ البدء.
تقول صلاة الصلح "الذي من أجل الصلاح وحده مما لم يكن كونت الإنسان وجعلته في فردوس النعيم, وعندما سقط بغواية العدو ومخالفة وصيتك المقدسة وأردت أن تجدده وترده إلي رتبته الأولي. لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي أئتمنتهم علي خلاصنا, بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست واشبهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها وصرت لنا وسيط مع الآب والحاجز المتوسط نقضته والعداوة القديمة هدمتها واصلحت الأرضيين مع السمائين وجعلت الأثنين واحدًا واكملت التدبير بالجسد" [13].
ويعود ق. غريغوريوس إلي نفس النقطة ويستعرض في صلاة آخري, وبطريقة أكثر تفصيلاً ما قد وُهبَ للبشرية نتيجة لتجسَّد إبن الله المخلّص " أنت يا سيدي حوّلتَ لي العقوبة خلاصًا, كراع صالح سعيت في طلب الضال, كآب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط ربطتني بكل الأدوية المؤدية إلي الحياة .... كنور حقيقي اشرقت للضالين وغير العارفين... باركت طبيعتي فيك, واكملت ناموسك عني, وأريتني القيام من سقطتي, أعطيتَ اطلاقًا لمَنْ قبض عليهم في الجحيم, أزلتَّ لعنة الناموس. اُبطلَّتَ الخطية بالجسد أريتني قوة سلطانك, وهبت النظر للعميان, أقمتَ الموتي من القبور اقمتَ الطبيعة بالكلمة, أظهرتَ لي تدبير تعطفك" [14].
وبدراستنا لهذه النصوص الليتورجية والخاصة بالعمل الخلاصي للإبن المتجسد يمكننا أن تبين الآتي: ـ
أـ الإبن فقط ولأنه هو الله ـ وليس غيره سوء ملاك أو رئيس ملائكة أو نبي أو رئيس أنبياء ـ استطاع بسبب صلاحه أن يخلّص البشرية ويهبها الحياة بعد أن كانت قد أُقتيدت للهلاك.
ب ـ عندما تنازل الله الكلمة, أخلي ذاته وهكذا استطاع الإنسان أن يكتسب الإمكانية كي تكون له شركة مع المسيح وبالتالي يتحقق خلاصه وفدائه.
نقطة هامة أخرى في تعاليم ق. غريغوريوس الخريستولوجية, تتعلق بالعمل الخلاصي للإبن المتجسَّد. فعندما واجه ق. غريغوريوس التعاليم الخاطئة لاتباع ابوليناريوس والذين كانوا يعلّمون بأن كلمة الله عندما صار بيننا أتخذ جسدًا دون نفس عاقلة, نجده وقد صاغ تعاليمه الخريستولوجية بخصوص هذا الموضوع في عبارات واضحة ومرتبطة بتعاليمه عن عمل الإبن الخلاصي.
لقد شككت تعاليم ابوليناريوس في كمال طبيعة المسيح البشرية محطمة وحده النفس والجسد, جاعله من خلاص الإنسان أمرًا مستحيلاً, طالما أن الكلمة لم يتخذ لنفسه طبيعة بشرَّية ذو نفس عاقلة. علي العكس فقد علّم ق. غريغوريوس "إن ما لا يؤخذ لا يخلص, اما ما قد اتحد به الرب فهذا يخلص". هذا وقد عبّر ق. غريغوريوس عن إيمانه هذا في نص الليتورجية التي تحمل اسمه قائلاً: " بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست واشبهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها" [15]، حيث عبَّرت الكلمات "تجسدت وتأنست"، علي عمق تعليمه الخريستولوجي في هذه النقطة أو كما يقول في موضع آخر "أبطلت الخطية بالجسد" [16].
وهنا نلاحظ أن القديس غ. اللاهوتي يريد أن يشدّد علي أمرين
I ـ التأكيد علي إيمان مجمع نيقية بتكرار نفس المصطلحات التي وردت في قانون الإيمان عن الإبن مثل "تجسد" "وتأنس", ذلك الإيمان الذي حاول ابوليناريوس أن ينقضه بتعاليمه الخاطئة عندما حاول أن يقدم إيضاحًا لقانون الإيمان متحاشيًا ذكر مصطلح "تأنس"، المصطلح الذي يؤكد علي حقيقة كمال طبيعة المسيح البشرية.
II ـ أن يكرر ويشدَّد علي ما علّم به في موضع آخر بأن غرض التجسد هو " أن الله حل لعنة الخطية وبارك المثيل بمثيلهً, ولأجل هذا السبب فإن كلمة الله عندما تجسَّد أتخذ له جسدًا بنفس عاقلة أي طبيعة بشرَّية كاملة, طالما إن هذه الطبيعة البشرية أي الإنسان بكاملة كان قد سقط ووجد تحت حكم الموت. وتَجسُّد الإبن الوحيد منح خلاصًا للإنسان ووهبة شركة وإتحاد بالإله المتجسَّد الذي هو واحد في الجوهر معنا بحسب بشرَّيته, وبدون خطية, وواحد في الجوهر مع الآب بحسب الوهيته، بدون انفصال وهكذا تحطمَّت قيود الخطية وكُسرَت شوكة الموت.
ويُجِمل ق. غريغوريوس تعليمه عن العمل الخلاصي للإبن المتجسد بالتشديد علي أن المسيح قد منحنا شركة الثالوث المقدس, فهو أظهر لنا الله الآب ووهبنا معرفة الروح القدس الحقيقية. لهذا يوجه ق. غ. النيزينزي صلاته للإبن إلهنا ومخلّصنا قائلاً: "أيها الكائن السيد الرب الإله الحق من الإله الحق الذي أظهر لنا نور الآب الذ أنعم علينا بمعرفة الروح القدس الحقيقية" [18].
3ـ طريقة إتحاد الطبيعتين في شخص المسيح
لقد عبّر نص القداس الغريغوري بكل وضوح عن حقيقة وطريقة إتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرَّية في شخص المسيح الواحد, بإعتباره اتحادًا حقيقيًا وحسب الطبيعة. ففي هذا الاتحاد لم تفقد أي الطبيعتين أياّ من خصائصها. بل اتحدتا بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. وبسبب ما يسمي بتبادل الخصائص يعترف الأب الكاهن أن "هذا هو الجسد المحي" أي معطي الحياة وذلك بسبب أن هذا الجسد المخلوق والقابل للموت والذي أخذه من العذراء والدة الإله, هو جسده الخاص.
لقد تضمَّنت صلاة الاعتراف في نهاية القداس الإلهي كل هذه التعاليم الخريستولوجية وبشكل قاطع وواضح, حيث يقول فيها الكاهن "أمين أمين أمين اؤمن اؤمن اؤمن واعترف إلي النفس الآخير أن هذا هو الجسد المحي الذي اخذته أيها المسيح الهي من سيدتنا كلنا والدة الإله القديسة الطاهرة مريم. وجعلته واحد مع لاهوتك بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغير.... اؤمن أن لاهوتك لم يفارق ناسوتك لحظة واحدة ولا طرفة عين" ويتابع قائلاً: "اؤمن أن هذا الجسد يعطي خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه"[19].
وهكذا نري بوضوح كيف أن النصوص الليتورجية والتي منها نصوص صلاة الإفخارستيا, تعكس عقيدة الكنيسة وتعاليمها فتصبح بحق وكما يقول ق. ايريناؤس "عقيدتنا مطابقة للإفخارستيا والإفخارستيا مثبتَّة لعقيدتنا".
دكتور/ جوزيف موريس فلتس
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] التعليم عن إلوهية الإبن وعلاقته بالآب والروح القدس هو تعليم "خرستولوجي" إلاّ أن التعليم عن طريقه اتحاد الطبيعتين هو المعني الأكثر شيوعًا لمصطلح "خرستولوجي".
[2] الأعياد السيدية هي 14، الأعياد السيَّدية الكبرى وهي (عيد الميلاد المجيد، عيد البشارة، عيد الغطاس، عيد القيامة المجيد، عيد الصعود، عيد دخول المسيح أورشليم، عيد حلول الروح القدس( والأعياد السيدَّية الصغرى وهي (عيد الختان، عيد عرس قانا الجليل، عيد دخول المسيح الهيكل، خميس العهد، عيد دخول المسيح أرض مصر، أحد توما، عيد التجلي).
[3] في النص القبطي المقابل nomoocioc وترجمتها المساوي في الجوهر.
[4] في النص القبطي المقابل ncunyronoc وترجمتها الجليس علي العرش مع الآب.
[5] الخولاجي المقدس : دير البراموس, الطبعة الثانية 2002، ص316.
[6]في الأصل: الخالق الشريك مع الآب.
[7]التي يعجز البشر عن إدراكها.
[8]صلاة الصلح بالقداس الغريغوريوس منسوبة للقديس ساويروس. المرجع السابق ص319.
[9] أنظر عب29:12.
[10]الخولاجي المقدس : المرجع السابق ص325.
[11]المرجع السابق ص326.
[12] المرجع السابق ص333- ص334.
[13] المرجع السابق ص316 – ص317.
[14]المرجع السابق ص332 – ص335.
[15]المرجع السابق ص317.
[16]المرجع السابق ص334.
[17]المرجع السابق ص334.
[18]المرجع السابق ص326.
[19]المرجع السابق ص382-383.