لم يكتفِ الآباء بالتعاليم والكتابات الإرشاديّة ولكن امتدّ تأثيرهم إلى الصلوات التعبديّة الليتورجيّة.
فقد كان التلامس الآبائي مع الحقّ والذي أفرز لنا تلك النصوص الرائعة هو ما دعا الكنيسة لأخذ بعض تلك النصوص لتصير لها صلاة.
إنّ الصلاة اللّيتورجيّة في مُجملها تحمل بُعديْن لا ينفصلان؛ البُعد التعبُّدي والبُعد العقائدي. فما من نصٍّ ليتورجي تعبدُّي لا يحمل رسالة عقائديّة واضحة.
فلم تكن الصلوات الليتورجيّة في أي عصر من العصور تفريغ لشحنات عاطفيّة في قلوب المؤمنين فقط، ولكنها كانت وماتزال انطلاقًا لمعاينة الثالوث، وحينما يتواجه المُصلِّي أمام الثالوث ينسَى ذاته ويتأمَّل في الجمال الإلهي، فتحمل كلماته مفردات ثالوثيّة تبدو للوهلة الأولى أنـّها مُعقّدة ولكنـّها في الأساس هي نتاج معاينة قلبيّة صادقة لمجد الثالوث.
ومَنْ يتأمَّل في الثالوث لا يستطيع إلاّ أن يُدرِك بوعي مُسبِّح قيمة التجسُّد والمساواة الأقنوميّة تلك التي تُعطي للتجسُّد قيمة عُظمَى، فضلاً عن أقنوميّة الروح القدس الذي يُحرِّك الصلاة ويُحرِّك معها قلب الإنسان نحو مدينة الله السرمديّة.
هذا فارقٌ بين صلواتنا المُعاصرة وصلوات الآباء والتي صارت صلوات الكنيسة.
كذلك نجد أنّ الصلاة المُعاصرة تُركِّز على الإنسان وآلامه واحتياجاته وأتعابه (الفرديّة) ويأتي الله كمريح لأتعاب الإنسان (الفرد)، وهنا يبقَى الله حلّ للإنسان (الفرد).
ولكن الصلوات اللّيتورجيّة / الآبائيّة هي صلوات تتأمَّل في الله، وإن جاز القول، تُحدِّق في نور الثالوث والأقانيم الثلاثة، فتأتي صلاتها تسبيحًا لعمل الله في ذاته، ومن ثمّ العمل المرتبط بالإنسان.
لذا من الضروري أن نفرِّق بين الصلوات الخاصة والصلوات اللّيتورجيّة التي يجتمع عليها المؤمنون معًا. في صلواتنا الخاصة نستخدم تعبيراتنا ونشكو آلامنا ونطلب حلولاً خاصة بنا ونتلمّس الله على قدر قامتنا وطاقتنا .. إلخ وفي المقابل يتفاعل الله مع صلواتنا على خلفيّة معرفته الخاصة بنا.
ولكن تبقَى تلك الصلوات في دائرة الخصوصيّة لأنـّها تُعبِّر عن شخصٍ مُفرد ولكنّها لا تُعبِّر عن الجماعة. على الجانب الآخر فإنّ الصلاة اللّيتورجيّة هي الصياغة التي هذَّبها الروح لتنمية وعي كتابي خلاصي مُتكامِل لتصِر أساسًا صلبًا لأيّة صلاة خاصة أو شخصيّة فيما بعد. والخلط بين ما هو شخصي وما هو ليتورجي هو أحد الأخطار التي تواجه عبادتنا المسيحيّة.
كذلك نجد أنّ الصلاة المُعاصرة تُفتـِّت البشريّة إلى أفراد لكلٍّ حاجته، بينما الصلاة اللّيتورجيّة ترى الجرح الإنساني العام والمُسبِّب لتمزُّق الإنسان وآلامه المُعاصره؛ فالخطاب الأول، الـ “أنا” فيه تعني الشخص المُفرد، بينما الثاني فإن الـ “أنا” فيه تعني البشريّة الساقطة.
فالليتورجيّة تُحيل أتعاب الإنسان إلى السقوط وتبعاته، بينما الصلوات المعاصرة يغيب عنها في الكثير من الأحيان تلك النقطة فتبدأ بسرد أتعاب الإنسان الجُزئيّة وتكتفي بأن لله حلاًّ لكلّ تعب إنساني دون أن تستند على الفعل الخلاصي فتُصدِّر وعيًّا مسيحيًّا منقوصًا معني بمعالجة الأعراض الظاهرة دون الولوج إلى أصل المرض وموطن الداء. من هنا نرى أن الخطاب اللّيتورجي مُتكامل الرؤيّة لماهيّة الإنسان وماهيّة الله وكيف تمّ الصُلح بين الله والإنسان بـ “تجسُّد / موت / قيامة” المسيح يسوع، ومن هذا الحدث نبتت شجرة النِعَم الإلهيّة لكلّ البشريّة أينما كانوا وأيّما كانت حالتهم.
كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط.
أرسلت لي الأنبياء من أجلي أنا المريض …
ليتورجيّة القديس غريغوريوس اللاّهوتي
في النصّ اللّيتورجي نجد أن المحوّر هو دائمًا الـ “أنت” (الله) وليس الـ “أنا” (الإنسان). إنّ هذا ما يُميِّز التسبيح اللّيتورجي، فالتغنِّي بالله وأعماله هو ملمح ليتورجي أصيل.
أنت الذي خلق السماوات وما في السماوات …
أنت هو الذي خلق الإنسان كصورتك وكشبهك
ليتورجيّة القديس كيرلُّس الكبير
أنت الذي تُسبِّحك الملائكة وتسجد لك رؤساء الملائكة
أنت الذي تُباركك الرؤساء وتصرخُ نحوك الأرباب
أنت الذي، السلاطين، تنطق بمجدك
أنت الذي، الكراسي، تُرسِل لك الكرامة …
أنت الذي يُباركك غير المرئيين
وأنت الذي يسجد لك الظاهرون …
أنت هو القيام حولك الشاروبيم والسارافيم …
أنت يا سيدي حوّلت لي العقوبة خلاصًا …
أنت الذي أرسلت لي الأنبياء من أجلي أنا المريض …
أنت الذي خدمت لي الخلاص …
أنت الكائن في كلّ زمان …
أنت الذي أعطيتني هذه الخدمة المملوءة سِرًّا
ليتورجيّة القديس غريغوريوس اللاّهوتي
من مميزات النصّ اللّيتورجي عن النصوص التعبديّة الحديثة([1]) هو ظهور المسحة الخلاصيّة بوضوح؛ أي قصة الفداء الإلهي للإنسان الساقط والجالس في الظلمة وظلّ الموت. داخل هذا الإطار برع الآباء في نصوصهم؛ منهم مَنْ استرسل في شرح المسيرة الخلاصيّة كالقديس غريغوريوس اللاّهوتي، ومنهم مَنْ اكتفَى برسم ملامحها الأساسيّة كالقديس باسيليوس الكبير في “صلاة الصُلح”، وأيضًا في “الأنافورا” بحسب الطقس السكندري.
قدوس قدوس قدوس أيها الربّ إلهنا
الذي جبلنا وخلقنا ووضعنا في فردوس النعيم [ الخِلقة ]
وعندما خالفنا وصيّتك بغواية الحيّة
سقطنا من الحياة الأبديّة ونفينا من فردوس النعيم [ السقوط ]
لم تتركنا عنك أيضًا إلى الإنقضاء
بل تعهدتنا دائمًا بأنبيائك القديسين [ النبوّات عن المسيّا ]
وفي آخر الأيام، ظهرت لنا
نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت
بابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومُخلّصنا يسوع المسيح
هذا الذي من الروح القدس
ومن العذراء القديسة مريم تجسّد [ التجسُّد ]
هذا الذي أحبّ خاصته الذين في العالم
واسلم ذاته فداء عنّا إلى الموت الذي تملّك علينا .. [ موت المسيح ]
نزل إلى الجحيم من قِبــَل الصليب
وقام من الأموات .. [ القيامة ]
وصعد إلى السماوات .. [ الصعود ]
ورسم يومًا للمجازاة .. [ يوم الدينونة ]
ليتورجيّة القديس باسيليوس (الأنافورا) بحسب الطقس السكندري
+ ومن النصوص المباشرة والتي تحوّلت إلى نصّ تعبُّدي ليتورجي؛ جزءٌ من الخطاب الذي ألقاه القديس كيرلُّس السكندري في جلسة المجمع المُنْعَقِد بمدينة أفسس (431م) والذي ورد في “لُبش السبت” من تسبحة نصف الليل:
السلام لك يا ممتلئة نعمة،
العذراء غير الدنسة،
الإناء المختار،
لكلّ المسكونة
المصباح غير المُطفأ،
فخر البتوليّة،
الهيكل غير المُنْقَض،
وقضيب الإيمان.
في بحثٍ للدكتور مجدي رشيدي عن مؤلِّف الثيؤطوكيات القبطيّة السبع، والذي نشره في مجلّة “مدرسة الإسكندريّة” وفي عددها الصادر في مايو 2010 يتحدّث عن النصّ القبطي الذي نشره العالِم أوسكار ليم Oscar Lemm والمنسوب للقديس أثناسيوس الرسولي، إذ يحمل بعض التعبيرات والفقرات التي نجدها في ثيؤطوكيّة الأحد في التسبحة السنويّة، إذ جاء النصّ، في بعض فقراته، هكذا:
بالحقيقة أنت مرتفعة، أيتها العذراء المُكرَّمة،
على كلّ العظماء
لأنـّه ماذا يشبه عظمتك، يا مسكن الله الكلمة؟
مع مَنْ يجب أن أشبِّهك، أيتها العذراء، بين كل الخليقة؟
سوف لا نجد شيئًا مرتفعًا عنك،
إلاّ سوف تكوني أنت مرتفعة عن الجميع؟
هل ينبغي أن أقارنك مع ثمار الأرض وكلّ مواليدها؟
أنت مرتفعة عن جميعهم
عندما نقول إنّ ملائكة الله ورؤساء الملائكة هم مرتفعون،
لكن أنت مرتفعة أكثر بكثير عنهم جميعًا،
لأنّ الملائكة ورؤساء الملائكة يخدمون بخوفٍ
الذي سكن في بطنك،
لدرجة أنّهم لا يتكلّمون بجسارةٍ قدّام الله ويتحيّرون،
لكن أنت تتكلّمين معه بدالةٍ
عندما نقول: الشاروبيم مرتفعون،
أنت مرتفعة أكثر منهم جميعًا،
لأن الشاروبيم يحملون عرش الله،
ولكن أنت بالمقابل حملت الله على ذراعيك
عندما نقول: السارافيم مرتفعون،
أنت مرتفعة أكثر منهم جميعًا،
لأنّ السارافيم يُغطُّون وجوههم بأجنحتهم،
لأنـّهم لا يستطيعون مشاهدة كمال المجد،
لكن أنت، لست فقط تطلّعت إلى وجهه،
وإنما احتضنتيه وأعطيتيه ثدييك في فمه المُقدَّس.
أيّتها التابوت الذي للعهد الجديد
الذي في وسطه القسط الذهبي
الذي في وسطه المنّ الحقيقي،
الذي هو جسدُ الابن، الذي مُخفَى فيه اللاّهوت.
لأنك أنت (العذراء) احتملت آلام الولادة لأجل حياة العالم ولكن حواء، في المقابل، هي أم الموتَى،
لأنـّه كما يموت الجميع في آدم،
سوف يحيا الجميع في المسيح.
إنّ من الأمور التي يلاحظها مَنْ يرصُد التعبيرات اللاّهوتيّة الواردة في نصوص الثيؤطوكيّات السبع أنّ الروح الآبائيّة قويّة وواضحة ومُميّزة فيها، ممّا يعود بنا مُجدَّدًا إلى التأثير الآبائي في النصّ اللّيتورجي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لسنا هنا بصدد تقييم النصوص ولكن فقط تمييز وتوصيف ملامح كلّ منها، ولعلّ هذا الأمر يحتاج إلى دراسة منفردة.