ننتمي إلى الكنيسة بالطقوس عامة أي بمجموعة الرموز والحركات (من شموع وبخور ودورات وغيرها) وكل ما تقيمه الكنيسة من خدمات لتسبيح الله وتقديس المؤمنين بما فيها الأصوام وأفاشين التقديس المختلفة والأسرار الكنسية السبعة وفي النهاية والقمة القداس الإلهي.
والحقيقة أننا لا ننتمي فقط إلى الكنيسة بالطقوس بل نعيش بها في الكنيسة، نعيش حياة الكنيسة وسرها الإلهي.
آ- إذا أردنا أولاً أن نتبين مكانة الطقوس عامة في حياة الإنسان، بصرف النظر عن طقوس الكنيسة، رأينا أن معظم نواحي حياتنا الاجتماعية مرتبة وفق طقوس.
ففي الحقل السياسي والدبلوماسي مثلاً، أو في الحقل القضائي، أو في الحقل الرياضي نرى الأمور تجري وفق (بروتوكول) معين وألبسة خاصة وأعلام أو إشارات وهتافات وتحركات وغيرها. وكذلك في احتفالات الأعياد الرسمية والموسمية الشعبية (كمهرجان الزهور مثلاً) وفي بعض الجمعيات التي تتخذ لها رموزاً خاصة، بل أن مظاهر حياتنا الاجتماعية العادية أحياناً، كالولائم وغيرها، لا تخلو من طقوس أو شبه طقوس.
وليس هذا كله سوى تعبير عن رغبة خفية أو حاجة في الإنسان إلى الانتقال بحياته إلى مجال آخر غريب ومتعال، إلى تخم أو أفق آخر يتجاوز الإنسان ويعلو عليه. وهذه الظاهرة تتجلى بوضوح في الديانات.
فالديانات منذ أقدم العصور تركزت تلقائياً حول الطقوس، سواء أكانت برقصات وصرخات وطبول أو بمحرقات وذبائح. وطقوس الديانات كلها تقدم إلى الإله أو الآلهة كيفما سميت، إلى ذاك الشخص المتعالي، أو ذاك العالم المتعالي الذي يفوق الإنسان، لكي ينال منه الإنسان الرضا والحماية والحياة.
فالطقوس إذاً في حياة الإنسان وتاريخه وطبعه أداة ووسيلة للاتجاه إلى فوق، إلى العالم الآخر، إلى الله. بها نتوجه ونحاول أن نبلغ إليه.
ب- أما في الكنيسة فالطقوس هي بالعكس تعبير وإناء لمجيء الله إلى الإنسان. لأن الله لا يبلغ إليه بل هو الذي يأتي.
ومنذ أن أتى ولبى رغبات الإنسان في الصميم أضحت الطقوس في الكنيسة تعبيراً، كما قلنا، ومكاناً لهذا المجيء. لأن الله قد تجسد فالطقوس في الكنيسة لم تعد مجرد ظاهرة طبيعية أو تضرعات إلى الله بأشكال مختلفة، بل أصبحت تنقل شيئاً، تشهد، تهيئ إلى شيء وتقدمه، تروي لنا أولاً ذلك التجسد وكل عملية الفداء والخلاص ولكنها لا ترويه فقط بل تضعه أمامنا في حقيقته الأبدية مستحضرة إياه في الزمن.
إن الطقوس الكنسية والحالة هذه هي إذاً أكثر من طقوس إذا جاز القول. منذ الآن أقول إن من خلالها يحضر المسيح حقيقة وهو غير منظور. ليس كالعلم (بفتح العين واللام) مثلاً: فالعلم يرمز إلى الوطن ولكنه ليس الوطن، أما طقوس الكنسية فترمز إلى المسيح وتدبيره الخلاصي ولكنها أيضاً تحويه.
تحوي حضوره: ميلاده وظهوره للناس وتعاليمه وصلبه ودفنه وقيامته من بين الأموات.. وفي النهاية تحوي جسده ودمه عينهما في الخبز والخمر:(هذا هو جسدي.. هذا هو دمي..) .
الطقوس في الكنيسة هي أكثر من طقوس: هي مجموعة رموز لا تمثل الحقيقة الروحية بل تَحقُقها.
ج- ولكن لماذا الطقوس وما الحاجة إلى أن تكون هي مكاناً لاقتبال الله؟
ما الحاجة إلى شيء حسي منظور ليعكس الروح غير المنظور؟ ذلك لأن الإنسان حسي، جسد وروح. الإنسان من الأرض جبل (بضم الجيم)، ومن أرضه المنظورة والملموسة وبواسطة حواسه أولاً ينطلق إلى غير المنظور.
سنبين فيما بعد ضرورة إحياء الطقوس من الداخل وعيشها بصورة شخصية وحرة، لأن ديانتنا تبقى ديانة القلب في الدرجة الأولى.
ولكن هذا لا يمنع من أن الإنسان أيضاً بجسده يعبر ويعيش، بجسده يسبح ويسجد، بل يؤمن، برسم صليب وترتيل وسجود.. (قدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية (رو 1:12). الإنسان لا يتجزأ عن جسده. ثم الله لما تجسد اتخذ وضع الإنسان الجسدي الأرضي بكامله (ما عدا الخطيئة).
لقد تبنى طبيعتنا بجملتها، بتركيبها وطرق فهمها وطرق تعبيرها، لكي يعود بنا بها إلى الآب. مارس الطقوس اليهودية، تلا المزامير مع تلاميذه وصنع الفصح كما نعلم، ثم حولها آنية ومحلاً لخلاصه وفصحه هو.
أتى إلينا حيث نحن لكي من حيث نحن نتقبله، ونستطيع أن نتقبله. قدس أرضنا وموادها لكي يتم خلاصه في أرضنا ومن خلالها..
إن الطقوس إذاً كما نرى مبنية على طبيعة الإنسان وعلى سر التجسد في آن واحد.
ولذا فإن أنكرنا مبدأ الطقوس في الكنيسة أو أهملناه نكون قد أنكرنا بالنتيجة وأهملنا سر التجسد، أي تغربنا عن كامل محتواه ونتائجه وفاعليته فينا.. هذا وفي الواقع لا بد عملياً من طقوس ولا مفر منها مهما كانت مجردة ومختصرة وفقيرة. لا مجال للتخلي عن الطقوس كلياً.
ولكن سر التجسد ليس فراغ وفقر بل هو سر كل غنى الله على الأرض، سر قوة الله وملئه في الأرض الجديدة التي الكنيسة باكورتها.
د- ونلاحظ أيضاً أن للطقوس دوراً في تاريخ عملية الخلاص إذا جاز القول. بعبارة أخرى كان لله قصد من وراء الطقوس منذ العهد القديم وهي لا تزال الآن تحمل قصداً إلهياً في الزمن.
ففي العهد القديم نرى مثلاً ملكيصادق الملك الذي يحوطه السر والمدعو كاهن الله العلي، ملك شليم أو أورشليم، يخرج خبزاً وخمراً عند مباركته لأبرام، راسماً بذلك مسبقاً ذبيحة المسيح وعشاءه السري. كذلك ذبيحة ابراهيم لإسحق ابنه الرامزة لذبيحة المسيح، حتى إذا جاء المسيح وتممها مع بقية الذبائح والفرائض الموسوية كف الطقس عن أن يكون صورة وظلاً ليعبر عن ملء...
ولكن بين الطقس وتحقيقه مسافة في الزمن كما نلاحظ. فكل طقوس العهد القديم مبنية في الأساس على وعد الله لابراهيم أبي المؤمنين وكانت تقام انتظاراً لتحقيق الوعد. هناك إذاً مسافة، انتظار، نوع من حركة، كأن الطقوس متجهة إلى ما أبعد منها، كأن فيها حركة داخلية إلى ما أبعد منها وأعلى. وهذا صحيح حتى في العهد الجديد، أي في الكنيسة، مع الفارق.
ففي طقوس الكنيسة يحضر المسيح سرياً كما رأينا ولكننا لا نزال ننتظر أيضاً حضوره الكامل في مجيئه الثاني المجيد، ولا نزال نطلب هذا المجيء. طقوس الكنيسة تحوي المسيح سرياً ولكنها مع ذلك، بل لأنها تحويه سرياً، متجهة داخلياً بأكثر لهفة وحرارة إلى كامل ظهوره ومجده، إلى - نهار ملكه الذي لا يغرب أبداً- (من تراتيل قانون الفصح).
هذا هو إذاً فحوى الطقوس بالنسبة للتاريخ والزمن : حضرة ولكن أيضاً ترقب وانتظار، رؤية ومع ذلك تطلع إلى الأمام، نوع من مشادة، من حركة داخلية تجعل الطقوس في كيانها غير جامدة وغير متوقفة، بل فيها عمل، فيها تيار، هو تيار الكنيسة عينها حيث يعمل الله ولا يزال يعمل. فقضية الانتماء إذاً هي قضية الدخول في تيار الطقوس من أجل الدخول في تيار الكنيسة وعمل الله فيها وفي العالم بواسطتها.
هـ- وبهذا نأتي إلى نقطة تحديد ما الكنيسة إذاً وما موضع الطقوس بالنسبة إليها؟ لا يدخل في نطاق بحثنا موضوع تحديد الكنيسة.
ولكن لا بد من التأكيد- من منظار موضوعنا- على أن الكنيسة في جوهرها الأخير ليست مؤسسة جامدة متوقفة. بل ليست مؤسسة على الإطلاق، وليست جماعة المؤمنين ولا أياً من التعاريف الأخرى التي يعرفونها بها عادة. الكنيسة يعجز عن تعريفها لأن أي تعريف لا يمكن أن يحيط بسرها.
فكل ما يمكن قوله هنا أنها (المكان)- ليس بالمعنى المادي ولا بالمعنى الحصري- إنها المكان الذي يتم فيه عمل الله- حيث تفعل نعمة الله الدائمة ويحضر ويتحقق تدبيره الخلاصي في العالم من أجل البشر.
ذلك الخلاص، المقصود منذ الدهور، والذي تم بالمسيح مرة واحدة إلى الأبد، يأتي إلى كنيسة المسيح من عند الله الآب ويحضر ويجري فيها بالروح القدس بصورة سرية على الدوام، إلى أن يبلغ العالم إلى الله في اليوم الأخير.
الكنيسة إذاً (مجرى) خلاص الله في التاريخ إذا جاز القول ومكان ظهوره.. ولكن كيف وبأي شكل؟ بالطقوس بالدرجة الأولى كما سنرى بعد قليل، بالطقوس (كعلامة) لما وراءها والذي يفوقها بكثير، ولكن كعلامة (ظهور) وقد قيل إن الطقوس بمثابة ظهور الكنيسة.
وكعلامة ملازمة وقد قيل أيضاً (حيث توجد الكنيسة توجد أيضاً ليتورجيا (وكلمة ليتورجيا هنا بمعنى طقوس) وحيث ليس ليتورجيا ليس أيضاً من كنيسة)..
ولذلك نرى المضطهدين منذ أيام الرسل همهم الأول منع اجتماع المؤمنين وإغلاق الكنائس، مع تحريم إقامة الشعائر الدينية. ولذلك كان المسيحيون الأولون يخاطرون بحياتهم ليجتمعوا خفية في الكهوف ويصلوا ويؤلفوا الكنيسة.
نحن نصل إذاً في بحثنا إلى هذه النتيجة
هناك تلازم إلى حد بعيد جداً بين الطقوس والكنيسة. الكنيسة لا تبقى كنيسة بدون طقوس. الطقوس تعطينا خلاص الله الذي في الكنيسة ليعمل هذا الخلاص فينا وفي العالم بواسطتنا.
نحن نقبل إلى الكنيسة بالطقوس ولكن متى أقبلنا فالكنيسة هي التي تقدم لنا سرها وخلاصها وحياتها الإلهية، أي أن الكنيسة في الأخير هي التي تصنعنا أكثر مما نحن نصنعها. هي التي تجعلنا ننتمي إليها بالطقوس.
من أجل فهم الليتورجيا وعيشها
رهبنة دير مار جرجس الحرف