الطقس في القرون الأولى
بداية وأصل ليتورجية الزمن [1]
يزعم البعض أن الكنيسة الأولى لا تعرف ما يُسمى بالليتورجية الزمنية، فالعبادة ـ حسب رأيهم ـ كانت تتضمن إقامة الإفخارستيا وتصاحبها العظة وسر العماد ووضع الأيادي التي كانت تمثل عناصر ضرورية لها.
وتأييدًا لهذا الرأى يقول أوسكار كولمان إن "الكنيسة الأولى تعرف فقط شكلين للعبادة: العشاء الإفخارستى ثم بعد ذلك يتبعه عظة الإنجيل والعماد" [2].كذلك يرى الأب G.Dix أن الكنيسة الأولى لا يمكن أن يكون لها أى نوع من "الليتورجية الزمنية" لأن بحسب طبيعتها كانت أخروية أى كان يسيطر عليها البُعد الإسخاتولوجى، وبالتالى ـ بحسب رأيه ـ لا يمكن أن تتكيف مع تقديس "للأزمنة والأوقات" التي هى عبادة متأخرة ـ على حد زعمه ـ عن العصر الأول للكنيسة.
وهكذا بحسب رأى Dix من الصعب أن توجد عبادة في الكنيسة الأولى تستند على الزمن، أى لها علاقة بأوقات وازمنة الحياة البشرية، لأن الكنيسة نفسها ـ على حد زعمه ـ تعتبر باب خروج من الزمن، إنها استنكار ورفض للعالم الذي يعيش كله داخل الزمن، الذي هو خاضع له ويُقاس به. إذن فالبُعد الأخروى الذي هو ملمح أساسى في طبيعة الكنيسة ـ كما يرى Dix ـ يجعل الكنيسة رافضة للعالم وبالتالى جعلها ترفض أى محاولة لمسحنة العالم. ويعتبر Dix أن الكنيسة هجرت عبادتها الأولى بعد القرن الرابع [3].
لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
كيف أتت ليتورجية الزمن وكيف صارت إطارًا لصلوات الكنيسة الليتورجية؟
إن علماء الليتورجية أمثال G.Dix ، Duchesne ، و Battifol يربطون بداية ليتورجية الزمن بنمو الرهبنة [4]. لكن أحدًا لا يرفض وجود صلوات يومية لها مواعيد محددة تمثل شكل أوّلى للصلاة النهارية والليلية التي صارت فيما بعد، وآباء ما قبل نيقية شهدوا بذلك. وأيضًا قبل القرن الرابع وفق رأى Duchesne كانت توجد صلوات خاصة محددة المواعيد. وهذه الصلوات قد التحمت رسميًا بصلوات العبادة في الكنيسة وذلك بواسطة الرهبان، وتحولت هذه الصلوات إلى صلوات الكنيسة كلها. والكنيسة لا تبتعد أبدًا عن حياتها في اللحظة التى فيها تحدد صلوات خاصة بها [5].
لقد نادى كل من عالم الليتورجيات الإنجليزي [P. Freeman [6 والعالِم [C.W.Dugmore [7 بأن البنية المسيحية للعبادة ترجع بدايتها إلي العبادة اليهودية في المجمع اليهودي. ومن المعروف أن العبادة اليهودية تُوصف طقسيًا بليتورجية الزمن، إذ ترتبط بصلوات يومية، أسبوعية، سنوية، وطبيعي أن تُقبل هذه البنية في العبادة المسيحية. وقد نادى Dugmore بأن الثلاث دورات الخاصة بليتورجية الزمن (اليومية ـ الأسبوعية ـ السنوية)، يمكن الاستدلال عليها في العصر الرسولي وهذه الدورات تمثل منظومة غير متغيرة لقانون الصلاة (Lex orandi) للكنيسة.
هكذا إذ بينما ركز Dix على البُعد الأخروى للعبادة وربطها بالإفخارستيا، نجد أن Dugmore ركز على الإرث اليهودي والطابع اليهودي الذي طبّع العبادة المسيحية، دون أن يقلل من البعد الأخروى. لكن هل يمكن أن نوّفق بين هذين النظريتين؟ هذا ما سنراه في العنصر التالي:
الأساس اليهودي للعبادة المسيحية
تبين الدراسات التي قام بها بعض علماء الليتورجيات [8] ـ خصوصًا على نصوص وادي قمران ـ أن هناك اعتماد تام للعبادة المسيحية على عبادة المجمع اليهودي، هذا الاعتماد لفت الأنظار ناحية الليتورجيات اليهودية،فيقول Osterley مثلاً: "إن المرء عندما يدرس العبادة اليهودية وصلاة الكنيسة، لا يمكن أن يغيب عنه ملاحظة هذا التشابه الشديد في الشكل وكأنه انسكب من قالب واحد... ومع إقرارنا بالإختلافات الواضحة بين العبادتين إلاّ أنهما يمثلان نموذج واحد للعبادة " [9]. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نجد أن الاعتماد لا ينحصر فقط في المصطلحات الكتابية أو الأشكال اللغوية الكتابية، والجمل المشتركة في العبادتين، لكن هذا الاعتماد ينسحب أيضًا على نظام الصلوات لكل الترتيبات الطقسية، والتي يسميها Baumstark "وحدات ليتورجية كبيرة "، أي العناصر الأساسية التي تحدد الشكل والمحتوى العام للعبادة، فمثلاً:
مبارك اسم الله الأزلي،
الاعتراف بالخطايا،
التضرع إلى الله، تمجيد وتسبيح الله لأجل أعماله في التاريخ.
هذه كلها عناصر تمثل البناء الطبيعي لصلاة المجمع اليهودي [10]، ونلاحظ في نفس الوقت أن هذه العناصر ذاتها بنفس ترتيبها وطقسها ووضعها الطقسى، تمثل بنية العبادة المسيحية الأولى. إذن لدينا هنا تشابه فى نظام العبادة، وليس فقط مجرد تشابه، بل بالحرى تطابق بنية وتماثل. لقد انتهت هذه الدراسات لما انتهى إليه Oesterly حين قال:" إن الجماعات المسيحية الأولى قد حفظت الشكل التقليدي للعبادة في المجمع اليهودي، إذ كان البشر الذين يمثلون هذه الجماعات قد اعتادوا عليها ...
وهكذا عندما جاء الوقت لوجود عبادة مسيحية مستقلة، كان طبيعيًا أن تتأثر هذه العبادةالجديدة ـ في الشكل والنموذج بتلك العبادة التقليدية ـ والتي كانت قريبة جدًا للمسيحيين الأولين "[11].
كما أن هذه الدراسات ترفض الرأي الذي ينادى بأنه لا يوجد تأثير للعبادة اليهودية على العبادة المسيحية، وأصحاب هذا الرأي الرافض أيضًا يزعمون بأن العبادة المسيحية الأولى هي في طبيعتها "كارزماتية" أى أن لها ملمح إلهامى روحي، يصادر أي ترتيب أو طقس. فقد كانت العبادة ـ على حد زعمهم ـ حماسية نبوية، ثم بعد ذلك دخلت العبادة في عصر قلة المواهب، أى في أشكال نموذجية ثابتة.
لكن الدراسة المقارنة لنماذج الليتورجيات، قادتنا إلي أن وجود المواهب لا يتعارض مع قانون الصلاة أو طقسها، وذلك بمفهوم البنية العامة التي ورثتها المسيحية من اليهودية، وهذا يظهر جليًا في حالة الاجتماع الإفخارستي.
يلخص Dugmore نتائج كل هذه الدراسات قائلاً: [ إنه من عصر الرسل يمكننا أن نستنتج أن العبادة اليهودية في المجمع اليهودي تمثل أصل ونموذج للعبادة المسيحية ] [12].
طبيعة وأهمية العلاقة بين نظام العبادة اليهودية والعبادة المسيحية
أ ـ الاحتفاظ بنظام العبادة اليهودية
لقد احتفظ المسيحيون الأولون ـ الذين كانوا من أصل يهودى ـ بروح العبادة الأولى وبنيتها، وهذا شئ طبيعى. أصبح جوهر العبادة المسيحية جديد تمامًا كما يؤكد الرسول بولس قائلاً: " الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل صار جديدًا" (2كو17:5)، موضحًا بأنه بمجىء المسيح نشأ تيار جديد وعميق في الحياة التعبدية للمسيحيين الأولين.
وهذا التيار الجديد والعميق لا يتعارض مع الشكل اليهودى للعبادة، بدليل أنهم استمروا بعد ذلك على هذا النموذج بعد موقفهم الحاسم تجاه اليهودية. ولدينا شهادات بأن هذا النموذج للعبادة لم يكن مضادًا للتيار المسيحى الجديد. بدليل إن الأناجيل وسفر أعمال الرسل لم يتركوا لنا أى شك في أن المسيح والتلاميذ لم يرفضوا الهيكل والمجمع. وليس من قبيل الصدفة أن القسوة التي أظهرها المسيح عندما طرد التجار من الهيكل ارتبطت بالغيرة على الهيكل. إن المسيح حفظ الأنظمة الدينية للناموس والنظام الكهنوتى والاحتفال بالأعياد. ويؤكد سفر أعمال الرسل أيضًا على تمسك المسيحيين الذين في أورشليم بنظام العبادة التقليدية، بدليل أنهم لم يتوقفوا على المواظبة على الصلاة في المجمع والاحتفال بالأعياد وحفظ ساعات الصلاة والتعليم (انظر أع42:2، 16:20، 11:3).
بل إن تمسكهم بنظام العبادة اليهودية كان شديدًا وظاهرًا حتى أنهم وُصفوا بأنهم "غيورون للناموس" (أع20:21). وهذا يتضح من أنه بالرغم من عداوة زعماء اليهود لهم، لم يتهموهم بأنهم أهملوا نواميس العبادة.
ب ـ عنصر العبادة المسيحية الجديد
إن المسيح ـ أمام التقليد اليهودي للعبادة ـ قد إفتتح عصرًا جديدًا للعبادة " بالروح والحق " (لو1:11)، وفي سفرأعمال الرسل نجد أن المسيحيين بجانب اشتراكهم في العبادة التقليدية ـ كانت لهم مسيحية خاصة بهم إذ كانوا يمارسون الصلاة المشتركة فيما بينهم ويتممون سرى العماد والافخارستيا وكل الصلوات السرائرية الخاصة بهم. وهذه العبادة كانت تميزهم تمامًا عن بقيه اليهود. فالعبادة المسيحية لم تكن مجرد استمرار بسيط للعبادة التقليدية وذلك بإضافة عناصر جديدة عليها، لكن كان إشتراك فعلى في نظام العبادة القديم، وفي نفس الوقت حضور للعبادة الجديدة.
فالجماعة المسيحية الأولى صارت لها عبادة جديدة تمامًا. ونشدد ثانيةً على أن العبادة الجديدة لم تأتى من منابع غير يهودية ـ هى يهودية في الشكل والروح ـ لكن هى جديدة تمامًا في علاقتها بالعبادة التقليدية "في الهيكل ومن بيت إلى بيت".
إن الأساس الأول للعبادة المسيحية تَكوّن من هذه الثنائية الليتورجية (اليهودية ـ المسيحية)، ودراسة قانون الصلاة للمسيحية الأولى " Lex Orandi"، يجب أن تبدأ باكتشاف مفهوم هذه الصلاة والذي سوف نراه في إيمان المسيحيين الأولين. لقد آمنوا بالعهد الجديد لأنهم رأوا وعايشوا وأدركوا تحقيق نبوات العهد القديم في يسوع المسيح الذي تحققت فيه كل وعود ونبوات العهد القديم.
لقد عايشوا المسيحية كأنها بداية "يوم الرب" حيث إليه يتحرك كل تاريخ شعب الله المختار" فليعلم يقينًا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًا ومسيحًا" (أع36:2). وهذا يعني أنه عند هؤلاء ـ "كيهود حسب الجسد" ـ لم تكن المسيحية ديانة رافضة للقديم لكن هى بمثابة تحقيق الكمال الأخروي له، إنها التاريخ المقدس للعهد بين الله وشعبه. الأمر الجديد الذي عايشه المسيحيون الأولون، كان بالنسبة لهم "كعبرانيين" ليس شيئًا جديدًا، لكن بالضبط تحقيق الوعد، ومجيء المسيا المنتظر.
ج ـ الكنيسة هى إسرائيل الجديد
إن الكنيسة هي بمثابة إسرائيل الجديد، إنها اليهودية التي تجددت بالمسيا، وهذا ينسحب على كل الجنس البشري، إنه عهد الله مع شعبه. فالمسيحية ليست مجرد نظام كهنوتي لتتميم طقوس، ولا هي نظام فكري جدلى مثل الفلسفة اليونانية. لكن الكنيسة هي إسرائيل الله، إسرائيل المجدد بواسطة المسيح، إنها حياة بأبعادها الدينية والأخلاقية والإجتماعيه، حياة يمكن أن تُعاش فقط داخل العهد مع الله، وبالتالي داخل الجماعة التي أسسها الله نفسه بهذا العهد. لقد أتى المسيح لا لكي يلغي الناموس، لكن لكي يحققه ويكمله ويملئه بالمعنى الكامل. أتى المسيح لكي يجعل الناموس له فائدة وفاعلية.
لقد اكتسبت أوامر ووصايا العهد القديم أهمية حقيقية بالمسيح " فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن فيها حياة وهي تشهد لي " (يو39:5).
ويمكننا أن نطبق هذا المبدأ في العبادة، طالما أن الوعد الإلهي في كل حياة إسرائيل أخذ معنى بتحقيقه وتجديده بواسطة المسيا. هكذا فإن المسيحيين مارسوا العبادة القديمة، بنفس الطريقة التي قرأوا وفهموا بها العهد القديم الذي أنبأعن المسيح. فلقد أصبحت كتب العهد القديم هي نفسها كتب العهد الجديد، إذ هي تتضمن الإعلان الإلهي الذي أنبأ عن المسيح الذى حقق وتمم كل ما كُتب عنه في العهد القديم، لدرجة أنه بدون العهد القديم، لا يُفهم ليس فقط المسيح ـ كما يقول الأب ديكس ـ بل الكنيسة نفسها وكل حياتها [13].
د ـ المسيح هو مركز العبادة
وهكذا في هذا الإطار، صار موقف المسيح نفسه أمام العبادة الرسمية مفهومًا، وهذا يمكن أن نتحقق منه في الأناجيل. على الجانب الآخر، فقد أدان المسيح قصور هذه العبادة، وعدم كفايتها، وأدان أيضًا التقاليد والوصايا والتفاسير الرابونية التي كانت تُزايد على نصوص العهد القديم، موضحًا بأنها تُحرّف معناها وتحولها لفائدتهم ولأغراضهم الخاصة، بينما الهدف الحقيقي للعبادة هو أن يتعرف الناس على المسيح الذي عن طريقه تكون لهم شركة مع الله الآب.
لذلك فالعبادة ينبغى أن تخضع للهدف المنشود للناموس ولإسرائيل القديم، أى داخل تحقيق شركة الله " في المسيح " مع البشر، وخارج هذا الهدف تصير العبادة حجر عثرة. فقط عندما ندرك كل هذا نستطيع أن نفهم معنى العبادة الجديدة والتي كانت منذ البداية تمثل عملاً ليتورجيًا محوريًا للجماعة المسيحية، إذ كانت العلامة التى تميزالكنيسة عن إسرائيل بحسب الجسد. فبالرغم من أن العبادة الجديدة قد أتت من التقليد اليهودي، إلاّ أن الفرق الجوهري بين العبادتين ليس في الشكل ولكن في المحتوى.
إن الأعمال الليتورجية مرتبطة ارتباطا شديدًا بمجيء المسيح ورسالته المسيانية. الكرازة بموته وقيامته. لذا فإن المسيحيين مارسوا العبادة القديمة بطريقة جديدة تمامًا، فقد رأوا في هذه العبادة محتوى جديد لم يكن لليهود إمكانية أن يروه. فالعبادة اليهودية كانت نبوة عن المسيح مثل أسفار العهد القديم، وتأكيد للإحتياج لمجيئه، ولم يروا فيها إلاّ شهادة حية عن المسيح الذي سوف يأتى ويحقق ملكوت الله.
لا يوجد أدنى شك أن العبادة الجديدة أسسها المسيح نفسه كذكرى له ـ " اصنعوا هذا لذكري" ـ لذلك فإن هذهالعبادة ليست لها محتوى أكثر من مجىء المسيح وعمله الذي حققه، والتلاميذ قد فهموا هذه العبادة كحضور للمسيح، وعن طريقها "بشروا بموت الرب واعترفوا بقيامتة". وبالتالي فإن هذه العبادة ليس لها معنى خارج الإيمان بالمسيح على أنه المسيا، وخارج الإيمان بحضوره داخل الكنيسة.
لقد ظهر بوضوح الآن أن الثنائية الليتورجية لعبادة الجماعة المسيحية الأولى، لا تعني مجرد وجود مشترك للقديممع الجديد، أو مجرد لجوء اضطرارى ـ في البداية ـ من جانب المسيحيين الأُول إلى العبادة القديمة لعدم توفر البنية النصية للعبادة الجديدة.
لكن كما أن العهد الجديد لم يحل محل العهد القديم، لكن هو تحقيق له، هكذا فإن عبادة العهد الجديد لم تحل محل العبادة القديمة ولا هى رافضة لها، لكن أصبحت الجديدة تكميل وتحقيق لها. إن إعلان العهد القديمعن الله والإنسان والخليقة والتدبير الخلاصى قد وجد ملئه في العهد الجديد، وغير ممكن أن يُفهم عمل المسيح خارج هذا الإعلان. وهكذا لا بد أن نرى الثنائية الليتورجية لليهودية المسيحية، ليست كفترة انتقالية تغييريه، ولكن كتعبير لقانون الصلاة الخاص بالمسيحيين الأُول.
استمرار الثنائية الليتورجية بعد حسم الكنيسة لموقفها تجاه اليهودية
قد يتساءل المرء قائلاً: هل حُفظ قانون الصلاة بعد حسم الكنيسة لموقفها تجاه اليهودية، وذلك عندما وصل تاريخالفترة اليهودية المسيحية لنقطة النهاية؟ وإن كان قد حُفظ فبأي شكل؟ هذا ما سوف نتناوله الآن بالتفصيل.
بالرغم من أن الأب Dix يرفض وجود "الثنائية الليتورجية" في فترة الكنيسة وهي تبتعد تمامًا عن الهيكل والمجمع، إلاّ أن هناك الرأى ـ كما ذكرنا من قبل ـ الذي ينادي بأن كل شيء ورثته الكنيسة من اليهودية ظل في العبادة الجديدة، خاصة في الإجتماع الإفخارستي، والذي يمثل الشكل الفريد لعبادة الجماعة المسيحية. لقد وجدت الثنائية الليتورجية تعبيرها في البنية الثنائية للاجتماع الإفخارستي، أى في إزدواج الإجتماع (السيناكس) والإفخارستيا. هكذا حافظ الاجتماع (السيناكس) على بنية إجتماع المجمع، والتي يتم فيها قراءة الكتب المقدسة وتفسيرها ثم بعد ذلك عظة على الموضوع المحورى للقراءات.
أما الجانب الإفخارستي فقد حافظ على شكل وطقس القداس أو Kiddush باللغة العبرية. وبذلك صارت هذه الثنائية كليتورجية واحدة للعبادة المسيحية. أما كيف صارت ليتورجية واحدة؟ يقول عالِم الليتورجياSrawley :
"هكذا حدث لكن من الصعب أن نعتبر علميا هذا الرد ردًا مرضيًا"[14]. وبالرغم من أن الأب Dix يُصّر على أن في الكنيسة الأولى كان السيناكس ـ حتى القرن الرابع ـ منفصلاً عن الإفخارستيا. إلاّ أننا نشدد على أن الجزء الوعظي موجود حتى الآن في الإفخارستيا والذي يُسمى ما قبل الأنافورا، وكل علماء الليتورجيا يعترفون بهذا. وهذا يدل على أن الكنيسة حافظت ـ حتى بعد انفصالها التام عن اليهودية ـ على هذه الثنائية الليتورجية، بمعنى أنها حافظت على عناصر من العبادة القديمة وضمتها إلى العبادة الجديدة داخل بنية ليتورجية ثنائية الشكل.
إن الدراسات الليتورجية الحديثة أظهرت أن اليهودية المسيحية لم تكن ابتداع أو انحراف، لكن كانت بداية أصيلة وأساسية للكنيسة في كل مكان.
إن الفرق الأساسى والوحيد بين الكنيسة المسيحية من أصل يهودى وكنيسة الأمم ينبع من حقيقة أن اليهود المسيحيين لم ينقطعوا اطلاقًا ولم ينفصلوا عن شعبهم الذي كان لا يزال يمارس الشعائر اليهودية، وكانوا يؤمنون بإمكانية رجوع إسرائيل إلى مسيحهم. لذا اعتبروا أنفسهم أنهم يقومون بدور المهيئين لهذا الرجوع، أي أنهم كانوا يمثلون نواة إسرائيل الجديد.
لقد حدث سوء تفاهم بين جماعة أورشليم والرسول بولس حول الختان، وكان هذا مجرد خلاف داخل اليهودية المسيحية، داخل اتفاق عام على المبادئ المسيحية الأساسية. ولا يستطيع أحد أن ينكر بأن رسالة إسرائيل الجديد كانت للعالم كله وأن هناك ضرورة حتمية لتبشير الأمم. أما عدم الاتفاق فإنه يخص فقط مكانة الناموس داخل الكنيسة (إسرائيل الجديد) ولدى الأمم أيضًا. لقد دافع بولس عن استثناء الأمم من ناموس الختان، ولم يرد اطلاقًا استقلال المسيحية عن الناموس اليهودى.
لقد دافع بولس عن الطبيعة الحقيقية لإسرائيل الجديد والمفهوم الحقيقى للناموس. فالختان لم يكن فريضة اجبارية على الأمم لأنه كان يمثل رمز لعهد الله القديم مع الشعب، بينما العماد الآن هو الميلاد الثانى الذي أبطل أى تمييز بين الأمم واليهود بحسب الجسد، إذ أعطى العماد إمكانية للكل بأن يصيروا واحدًا مع إسرائيل الجديد. لقد أوضح الرسول بولس هذا الأمر في الرسالة إلى العبرانيين التي بيّنت أن الذبائح اليهودية لا تجدى ولا فائدة منها بعد ذبيحة المسيح لأن هذه الذبائح كانت مجرد تمهيد نبوى للذبيحة التامة والكاملة والحقيقية التي هى ذبيحة المسيح نفسه.
هكذا لم يرفض الرسول بولس العبادة القديمة في مجملها ولكن ببساطة رفض العناصر القديمة منها التي تُممت وتحققت لأن العبادة الجديدة قد تممتها وحققتها، أى في حياة إسرائيل الجديد. ولم يكن يوجد أى انحراف أو خطأ في اعتقاد المسيحيين بإمكانية رجوع إسرائيل (بالجسد) إلى المسيح، لأنه فعلاً قد انتشرت المسيحية سريعًا ورجع كثيرون من اليهود إلى المسيحيين في هذا المناخ اليهودى (انظر رو28:11).
وفي أعين المؤمنين وإيمانهم كانت الكنيسة هى إسرائيل الجديد والوارث الوحيد لدعوة ووعود شعب إسرائيل القديم. لقد صار واضحًا أن كنيسة الأمم هى لحم من لحم وعظام من عظام كنيسة الختان، إذ لديها نفس إيمان كنيسة الختان، بل إن حياتها هى وعود العهد القديم وأعضائها هم أبناء ابراهيم "الذي هو أب الجميع" (رو36:4) و "وارث العالم" (رو13:4).
هكذا فإن " قانون الصلاة " في العبادة عبّر تعبيرًا صحيحًا عن جوهر الكنيسة وإيمانها وحياتها، وحدّد شكل ونمو العبادة المسيحية حتى عندما أغلق إسرائيل "بحسب الجسد" أبواب المجامع والهيكل أمام المسيحيين. والبرهان الأول والواضح هو استمرار حفظ الاجتماع "السيناكس" وربطه بالافخارستيا أى " الليتورجيا الثنائية " التى تمارسها الكنيسة حتى الآن.
دكتور/ جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث فى المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يُقصد بهذا التعبير الصلوات التي تصليها الكنيسة في توقيتات معينة مثل صلوات السواعى ورفع البخور والقداسات.
[2] Cullman, Le Culte dans leglis primitive, Neuchatel et Paris, Delachaux 1944, P 30 .
[3] أنظر: G.Dix, The Shape of The Liturgy, Westminster, Dacre, Press 1945, p. 325.
[4] P. Battifol, Histoire du Breviaire Romain, Paris, Cabald, 1895, p. 29; Dix, The Shape of The Liturgy, p. 317.
[5] L. Duchesne, Origines du culte chretien, Paris, E. de Boccard, 1925, p. 469,472.
[6] P. Freeman, The principles of the Divine offic, V1 Morning and Evening prayaer, London, James parker1893.
[7] C.W.Dugmore, The Influence of the Synagogue on the Divine Office,Oxford university press.1964
8 انظر :
W.O.E Oesterley, the jewish bakground of the christian liturgy, Oxford university press 1925.
J. Jermias, the Eucharistic Words of Jesus, Oxford, Blackwell, 1955. G. Dix, the Jew and the Greek, Astudy in thePrimitive Church, Westminster, Darce press 1953. F. Gavin, the Jewish Ametecedents of the christian sacraments, London, S.P.C.K, 1928. Bumastark, Liturge Comparee.
[9] المرجع السابق ص 125.
[10] انظر: Oesterley المرجع السابق، ص52.
[11] المرجع السابق، ص90.
[12] المرجع السابق، ص50.
[13] انظر المرجع السابق، ص29
[14] J.H.Srawley, The early history of the liturgy, cambridge university press1949, p14