سألني أحد السادة الأجلاّء أن أكتب في الإصلاح الليتورجي.
عفوَك سيِّدي! معنى الإصلاح الليتورجي في ذهني، وما أشعر به حياله كموضوع، ملتبس. لذلك أربأ بنفسي أن أُعالج ما لا أراه بوضوح وما لا أرتاح له. فقط لديّ بعض الانطباعات. هذه أسوق، في ضوئها، الملاحظات التالية:
لا شكّ أنّ المنظومة الليتورجيّة البيزنطيّة، التي إليها انتماؤنا، لم تَنمُ، عندنا، في أنطاكية، نموّاً سويّاً. شيء في مسارها تعطّل.
الحسُّ الليتورجي ضَمر. أصاب الممارسات الليتورجيّة الجمود. الوجدان الكنسي انحطّ. لم تعد العبادة قادرة على استيعاب ما يمتُ إلى متغيِّرات الحياة ومستجدّاتها بواقعيّة ومرونة، على كل صعيد.
بقي إطار الممارسة، بعامة، الأمبراطوريّة البيزنطيّة، على ما كان للأمبراطور، في اللاهوت والتاريخ، من موقع في المنظومة الليتورجيّة المتوارثّة. كما استمرّ الكلام على غير البيزنطي، في الترانيم الكنسيّة كعلى البربر، الذين لسانهم غير اليونانية، حتى إلى اليوم، وبات أسلوبُ تعاطي ما سقط من التاريخ وعفّ عنه الزمن التأويل.
الرهبانيّة، بعامة، هي التي حفظت الوجدان الكنسي وحيويّة الممارسة الليتورجيّة، إلى حدّ بعيد، في الكنائس الأرثوذكسيّة المحليّة غير كنيستنا. في روسيا، مثلاً. في رومانيا. في اليونان. في صربيا...
أما عندنا فانحطّت الرهبانيّة، تدريجاً، لا سيما في زمن المماليك والعثمانيِّين، انحطاطاً كبيراً حتى زالت، عمليّاً، أو كادت، بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.
بقي ما بقي، من الممارسات الليتورجيّة والتقوى، دون الوعي اللاهوتي، مصوناً، بخاصة، في حدود العائلة المسيحيّة. لكن الجهل، بعامة، والفقر وضغط سلطة الأمر الواقع السياسيّة، جعل الوجدان الكنسي في وضع المتآكل باطّراد عندنا.
ثمّ كان لعنصر الارساليات الأجنبيّة، البروتستانتيّة والكاثوليكيّة، خصوصاً عبر مؤسّساتها التعليميّة، دور ليس بقليل في تغريب الأرثوذكس عن وجدان كنيستهم الأصيل وفي تمييع هذا الوجدان وإحداث الزغل فيه ودفعه إلى التلفيق.
المدارس الأرثوذكسيّة، التي نشأت، ساهمت، إلى حدّ ما، في حفظ الموجود، على ارتجاجه، خصوصاً المدارس التي زرعها الروس وبعض المحليّين أمثال القدّيس يوسف الدمشقي. لكن الانحطاط، بعامة، استمرّ.
طليعة النهضة، في القرن العشرين، كانت، بلا شكّ، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.
أبرز اهتماماتها كان استشراف التراث الأرثوذكسي. اهتمّت، أوّل أمرها، بالثقافة الكنسيّة وحياة الصلاة.
أهمّ ثمارها، في تصوّري، كان انطلاق الحياة الرهبانيّة من جديد. هذا فتح العين على الرهبانيّة في آثوس، وأغنى التيار الرهباني عندنا بالأكثر. ومع عودة الحياة الديريّة الشركويّة عاد زخم الحيويّة العبادية، ولو ضمن حدود لا زالت، بعامة، ضيِّقة.
أما الثقافة الكنسيّة فازدادت واتّسع نطاقها، ولكن ضمن حدود لا زالت، هي أيضاً، بعامة، ضيِّقة. هذا أثمر، اليوم، كهنة غيارى وبعض الانتعاش الرعائي.
لكنّ أكثر شعبنا لا زال، بكل أسف، جاهلاً. لا تعليم يُذكر مقروناً بالمعموديات.
الطقوس، دون العبادة بالروح والحقّ، هي الطاغية في الممارسة. أكثر من تسعين في المائة من شعبنا لا يرودون الكنيسة إلاّ في مناسبة معمدانية أو عرسية أو جنائزيّة.
لذا أجرؤ على القول، بحزن شديد، إنّه لم يعد عندنا، كنسيّاً، شعب أرثوذكسي، أي حاملٌ وجداناً أرثوذكسياً بالمعنى التراثي للكلمة.
هناك شعب ينتمي إلى الطائفة الأرثوذكسيّة. هذا شيء آخر. على أنّ هناك التماعات أرثوذكسيّة ومجموعات نهضويّة صغيرة هنا وثمّة.
فيما عدا ذلك، كنسيّاً، هناك شبه صحراء قاحلة. وطالما الكلام على الوجدان الأرثوذكسي فلا بدّ من تحديد سماته الرئيسيّة حتى يكون القارئ على بيِّنة منه.
السمة الأولى هي العِرفان. أن يكون الأرثوذكسي عارفاً بالأرثوذكسيّة، كما انحدرت إليه، عبر الكنيسة، من الكتاب المقدّس وآباء الكنيسة والمجامع المقدّسة وأن يميِّزها عن سواها ويتمسّك بها ويحافظ عليها ولا يرضى عنها بديلاً.
السمة الثانية أن يلتزم منحى الكنيسة الأخروي، في السيرة الشخصيّة، أنّه "ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية". هذا يعادل القول بأنّ الغاية من الحياة المسيحيّة هي اقتناء الروح القدس. أنتم لستم من هذا العالم. ليس لنا ههنا شيء. نحن في عبور متواتر إلى أورشليم العلويّة. لا طموحات ولا إنجازات لنا من هذا الدهر. فقط نحن هنا لغرض محدّد يتمثّل في الكرازة بالمسيح والمساهمة في تقديس أنفسنا والعالم "بالإيمان الفاعل بالمحبّة".
والسمة الثالثة أن عملنا الدائم ههنا هو استحضار ذكر الربّ يسوع بالليتورجيا. فيها نصير في الكنيسة. ومن دونها نبقى خارجاً. في الليتورجيا نشترك، رمزياً، إيقونياً، بواقعية روحيّة، في ما هو جار فوق، في عمل الله الخلاصي. نأتي من النعمة الإلهية لنقيم فيها أبدياً. والإيقونة والرمز معناهما أن نتعاطى ما هو أبدي فوق من خلال ما هو بين أيدينا، الآن، على الأرض. كل شيء، في سيرتنا الذاتيّة، مستمدد من الليتورجيا ويصبّ فيها: حفظ الوصيّة، القانون الكنسي، التنقية، الصلاة الشخصيّة...
لذا كان عدو الكنيسة الأوّل، في كل زمان، هو الدهريّة.
الدهريّة تطيح الوجدان الكنسي. تقتله قتلاً. تضرب الأخرويّة وتحوّل الليتورجيا إلى طقوس صمّاء. ما هي الدهريّة؟
هي تماماً خلاف الأخروية: أن تبقى اهتماماتنا في حدود هذا الدهر وأن ندفع بالأخرويّة، في المعتقد، إلى الزمان الأخير.
الأخرويّة التراثيّة شيء والأخرويّة الدهريّة شيء آخر.
في الأخرويّة التراثيّة نحيا في الأخرويّة الكيانيّة هنا والآن وإلى الدهر. ندخل في البعد العمودي للخلاص. الأبديّة الحاضرة في كل حين ومكان. وفي الأخرويّة الدهرية نُسخِّر الليتورجيا، طقوساً، لخدمة هذا الدهر. نبقى في المستوى الأفقي للحياة وإنجازات هذا الدهر.
مأساة الكنيسة، اليوم، أنّ شعبها مشبع بالدهريّة في تعاطيه الإيمان المسيحي، كما لم يكن منذ فجر المسيحيّة. من هنا قولنا إنّه لم يعد هناك شعب أرثوذكسي، بالمعنى التراثي للكلمة ولا عاد هناك وجدان أرثوذكسي إلا لماماً، هنا وثمّة. فلا عَجَب أن تكون عبادتنا اليوم مشبعة بالرمزيّة الدهريّة، أي بالعلامات التي تشير إلى تمكّن الدهريّة من الوجدان بيننا.
مثال ذلك أنّ خدمنا الكنسيّة أضحت مراسح لاجتماعيات الناس، الراقية والرخيصة. العالم اندلق إلى الداخل. كل شيء حاضر في أعراس الكنيسة، مثلاً، إلاّ الإحساس بالحضرة الإلهيّة، بأنّنا في السماء واقفون.
الله والخدمة الإلهيّة، هنا، مسخّران، عملياً، للزينة الخارجيّة ومباركة ما تشتهيه دهريّات الناس: حبّ الظهور، المجد الباطل، اللياقات، الغوايات... أليست هذه هي الوثنيّة بعينها؟ العبادة على صورة أهواء الناس؟!
الكنيسة، اليوم، تماشي الناس حتى في فذلكاتهم الدهريّة. أحد التعابير المتبدعة، اليوم، إقامة الأعراس إلى بركة السباحة، في الهواء الطلق، في المطاعم والفنادق. هذا يخلق، في القناعات، جوّاً شاعرياً سماوياً. ثمّ يدخل العروسان، وسط الأهازيج، إلى المطعم!
ما يُقال في الأعراس يُقال في كل خدمة ليتورجيّة، من القدّاس الإلهي إلى المعموديّات، إلى المآتم، إلى الأعياد الموسميّة. كلّها تعاني طغيان الاعتبارات الدهريّة على كل اعتبار إيماني. وهذا شاملٌ، بمقادير، أكثر الرعاة والشعب سواء بسواء. تطبع الدهريّة، بختمها، تعاطي الجوق للعبادة وتعاطي الوقف للمال وتعاطي اللباس وتعاطي الكل للكل. الجوّ الداخلي في النفوس ينضح دهريّة في كل بُعد من أبعاد العبادة، عندنا، اليوم.
في هكذا مناخ، بالضبط، تُطرح اليوم مقولة "الإصلاح الليتورجي".
هذا يدفع إلى الاستنتاج، في قناعتي، أنّ "الإصلاح الليتورجي"، في أرضيّة دهريّة، إن هو سوى مسعى، مقصود أو غير مقصود، لدهرنة الليتورجيا في الشكل بعدما جرت دهرنتها، كأمر واقع، في المضمون.
الممارسة الليتورجيّة التراثيّة باتت غريبة عن الذهنيّة والواقع الدهريَين الحاصلين. وبدل أن نعتبر أنّ الخلل أصاب النفوس لا النصوص، مع أنّ بعض ما هو وارد في النصوص بحاجة إلى تحديث تاريخي، بدل ذلك نعتبر أنّ العطب الذي أصاب الوجدان والحسّ الليتورجيَّين مردّه المنظومة الليتورجيّة عينها
. كأن ما يُقال وما لا يُقال: "أصلحْ الليتورجيا تستقمْ الممارسة الليتورجيّة".
الممارسة الليتورجيّة مؤشّر على سلامة أو عدم سلامة الحياة المسيحيّة برمّتها. غير صحيح أنّ المشكلة هي في إصلاح إطار السيّارة. كأن هذه هي كل المشكلة. الإطار بحاجة إلى بعض الدوزنة، إلى حشو الثقب الذي فيه بما يلزَم. ولكن هذا لا يستحق عنواناً درامياً كـ "الإصلاح الليتورجي" ولا إلى حجم من الاهتمام كبير.
في نهاية المطاف نحن ننتمي إلى تراث أرثوذكسي ولا يمكننا أن نستمرّ في الأرثوذكسيّة إلاّ في حدود لا حياد عنها ولا فكاك منها. بلى هناك إرث ليتورجي بحاجة إلى تحديث، ولكن المشكلة الأكبر هي أنّ المحرّك، محرّك السيّارة، معطّل. حتى لو أصلحنا الليتورجيا، في الإتجاه القويم، وهذا، في نظري، في المناخ الراهن، مستبعَد جداً، لأنّ الدوافع والموحيات إلى الإصلاح الليتورجي، في قناعتي، هي من طبيعة دهريّة، لا فرق أتّخذتْ شكلاً علمياً أو أتت مزاجية عشوائيّة، حتى لو أصلحنا الليتورجيا، في الإتجاه القويم، فلا أظنّ أنّ هذا سيعيدنا إلى الفردوس المفقود، سيعيد إلينا الوجدان الأرثوذكسي الذي تآكل من تأثير سنين وعوامل دهريّة، تضافرت في إطار المؤسّسات الاجتماعية والتربويّة والاتجاهات الحضاريّة الراهنة التي باتت تحتفّ بنا وتعتمل فينا، في عالم اليوم. الموضوع أعمق وأعقد وأبعد من أن تعالجه ترميمات ليتورجيّة برّانيةّ.
في قناعتي أنّ الاهتمام يجب أن ينصبّ على تحقيق نهضة في ثلاثة اتّجاهات:
إعادة تبشير الطائفة الأرثوذكسيّة لتعود كنيسة من جديد.
استعادة البُعد الأخروي في السيرة الذاتيّة وتركيب الجماعة، وصولاً إلى ممارسة ليتورجيّة حقّانيّة في مستوى المشاركة في الليتورجيا السماويّة الحاضرة في كل حين. كيف يكون ذلك؟ هذا موضوع كبير لا نخالنا، ههنا، في إمكان الإجابة عليه. المهم أنّ هذا هو الموضوع. هذه هي المشكلة.
معرفة الاتجاه الذي تُلتمس فيه الحلول والتدابير هي الخطوة الأولى في اتجاه تعاطي أزمة الوجدان الأرثوذكسي والممارسة الليتورجيّة. الباقي يتبع بمقدار ما نكون حريصين على إصلاح أنفسنا والإخوة بالتوبة الصدوق والتزام أصول الحياة الروحيّة وحياة الصلاة والمَثَل الطيِّب.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما